المشاركات

عرض المشاركات من سبتمبر, 2025

عيد ميلاد سعيد

  عيد ميلاد سعيد… هكذا تتعانق البدايات مع نهايات صامتة، وهكذا تنفتح أمامي أبواب سنة جديدة، لا كأرقام تضاف إلى تقويم معلق على الجدار، بل كخطوات أخرى في مسير طويل لا أعرف له تمامًا طريقًا ولا خاتمة. إنني أستقبل عامي الثاني والثلاثين كمن يضع كفّه على صدره، محاولًا أن يسمع دقات قلبه بصفاء أكثر، وأن يُنصت إلى الحياة لا بوصفها سباقًا، بل كأنها بستان، أتمشّى فيه ببطء، وأتنفس فيه عطراً خفيفاً يكفي لأن يوقظ دهشتي . لقد تعلّمت أن الكبر في العمر لا يعني فقط عدّ السنين، بل هو أشبه بمرور ضوء خفيف عبر زجاج الروح: يضيئها أحيانًا، ويترك عليها شقوقًا أحيانًا أخرى. في داخلي طفل لم يبرأ من صدمته الأولى أمام اتساع العالم وغرابته، طفل لا يزال يسأل عن جدوى كل هذا، وعن معنى أن نستيقظ كل يوم لنواجه قلقنا وبهجتنا معًا . هذه السنة، أريد أن أكون أكثر قبولًا لضعفي قبل قوتي، وأكثر رفقًا بالآخرين، وأكثر وفاءً لذلك الحلم البعيد الذي يسكنني منذ الصغر. أريد أن أتعلم أن الإصغاء أبلغ من القول، وأن الرحلة أثمن من الوصول . وإن كانت كلماتي لا تستطيع أن تلمس كل ما أعيشه، فإنها على الأقل تحاول أن تصوغ خيطاً يربطني ...

عاشق احتياط

 من الغريب فعلًا أن تبدأ العلاقة بين الرجل والمرأة من مجرد نظرة عابرة، كأن العين تسقط مصادفة على وجهٍ لم يكن حاضرًا في الذهن من قبل، ثم يشتعل شيء داخلي بلا سبب منطقي، فيتحرك الجسد باندفاع لم يستشر العقل فيه، فيبتسم الرجل، يغازل، يمد خيطًا رفيعًا من الكلمات، يطلب رقمًا أو دعوة صغيرة للجلوس معًا، ثم من هذه التفاصيل التي تبدو بسيطة جدًا، يتفتح باب أوسع، باب يفضي إمّا إلى حبٍ غامض، أو إلى متعة جسدية عابرة لا تحتاج إلى مبررات. واللافت أن المجتمع كله يتعامل مع هذه الطقوس وكأنها بداهة لا تحتاج إلى تفسير، وكأنها اللغة المشتركة التي لا مهرب منها. لكن حين تقف بعيدًا، وترى المشهد بعين متأملة، يتضح لك أن الأمر غريب حد الإرباك: كيف لحياة عاطفية كاملة أن تولد من شرارة صغيرة بلا منطق، بلا أساس، بلا تمهيد؟ أنا بطبيعتي انطوائي، ومن هنا تأتي المفارقة. فكرة أن أتحدث مع فتاة لا أعرفها لمجرد أنني انجذبت إليها تبدو لي أشبه بجريمة صغيرة، أو اقتحام غير مبرر لعالمها. يثقلني الشعور بأن أي محاولة كهذه تحمل في باطنها هدفًا جنسيًا، وهذا ما يجعل الخطوة أكثر إرباكًا، كأنها خروج عن نزاهة الذات. ولهذا وجدت نفسي ...

مرساة تعيدك إليّ

 تعالي يا حبيبتي، واقتربي أكثر، لأعانقك… وأسامحك . تعالي يا عزيزتي، واضميني إليكِ، كما تأتي الريح بعد حرِّ يومٍ طويل، كما يدخل الضوء عبر ستارٍ رقيق . كِلانا أخطأ، وتعلّمنا أن الفراق سطّر دروسه فينا، ليعلّمنا قيمة اللقاء، ويعلّمنا كيف نقرأ وجوه بعضنا بلا خوف . إنني منهزم أمام حبك، أضعفُ من أن أحتمل بُعدك، وأقوى من أن أنقض وعدي بلا معنى . ولا شيء يغيّر قدري هذا سوى هذه القصيدة، أضمُّ لكِ فيها وعدي الذي لا يموت، عهداً على شفتيّ، وناراً في صدري . حين أحببتك، لم أكن إنساناً عادياً، كنتِ بوجودكِ تجعلينني ملاكاً، أو كائناً يسمو فوقي . كنتِ أغنيةً ترددها الطرقات، نسمةً تسكت العيون، ونوراً ينتحب في ليلتي . تعالي يا حبيبتي، لأعيد لكِ الوجود على ما كان أجمل . سامحتك … لأن قلبك يخطئ كما يخطئ قلبي . سامحتك … لأن الأيام علّمتنا أن الحبّ أخطر ما فيه الرحمة . سامحتك … لأنني أريد لاحتضاننا أن يبدأ من هذه اللحظة بلا أثر للشتات . تعالي … اجعلي يدي مرسى ليديكِ، وأقف أمامك بكياني الضعيف، أحمل وعداً يغني جروحنا . لنعد معاً إلى حيث بقيت ضحكتك معلّقة، إلى حيث ...

حواريات مارتن و كارل: سؤال يمشي على قدمين

 مارتن: يا كارل، ما أشدّ عصفك بنفسك، كأنك بحر يتناوبه المدّ والجزر في ساعة واحدة. ما عدتُ أعرف أين تقف، في أيّ ضفة، أم أنك تائه في المجرى؟ كارل: يا مارتن، أنا المجرى ذاته. كلما حاولت أن أستكين في حوضٍ صغير، انسكبتُ منه. كبرتُ سنينًا، وها أنا أكتشف أن طفلي المتمرّد لم يكبر معي، بل ما زال يركض في داخلي، يركل جدران عقلي، ويضحك على كل قيد أحاول أن أضعه . مارتن: لكنك تبحث عن السلام، أليس كذلك؟ ألا ترى أن الراحة سبيل النجاة؟ كارل: الراحة موت مقنّع يا صديقي. الراحة سجنٌ جدرانه ناعمة. كلما جلستُ في حضنها، شعرت أنني أُساق إلى قبرٍ بطيء. إنني لا أطيق أن أكون حجراً، ولا أن أُدفن في صمت العاقل. في داخلي نار، وإن حاولتُ إخمادها احترقت أكثر . مارتن: أنت إذن أسير نارك . كارل: بل أنا نار نفسي. أنا الشرارة واللهيب والدخان. كلما أطفأتُ جمرةً في صدري، اشتعلت أخرى. أريد أن أكون سيدًا على نفسي، لكن نفسي تعرف أن تتمرّد عليّ كما لو كانت غريباً يسكنني . مارتن: وماذا بعد هذا الصراع الطويل؟ إلى أين يمضي بك؟ كارل: إلى لا مكان. أو ربما إلى كلّ مكان في وقتٍ واحد. إنني أركض بين ضفاف متناقض...

نورة، امتحان الروح

  كنتُ أعتقد أن الحب معجزة خفية، يخرجني من حدود الأرض الضيقة إلى أفق المستحيل، يرفعني كطائرٍ يقطع سماءً لا نهاية لها. كنتُ أراه وعدًا بالخلود، بابًا إلى عالمٍ لا يعرف الفقد، ولا يسمع أنين الرحيل. لكنني، مع كل تجربة، كنتُ أتعلم الدرس ذاته: الحب ليس جسرًا إلى المستحيل، بل امتحان قاسٍ، كتابٌ يدرّسني أن الممكن يظل ممكنًا، وأن المستحيل، حين يختبئ في الحب، يصبح أكثر قسوة من أي موت .   كنتُ أحلم أن أغيّر قوانين القدر، أن أقاوم ما كتب في اللوح، أن أقول لله: "دعني أخلق معجزةً صغيرة، فقط في قلب إنسان واحد، ليكون وفيًا كما أنا وفيّ له". ولكنني ما إن أفتح عيني حتى أصطدم بالحقيقة: لا سلطان لي على قلب غيري، ولا سُلطة لدموعي على أقدار تمشي بثباتٍ أعمى . أتذكر "نورة" فتشتعل الذكرى في صدري كجمرة لا تنطفئ. أمام المرآة، أصرخ كطفلٍ تائه: يا نفسي، لِمَ ما زلتِ وفية لشبحٍ رحل؟ الحبيبة تركتني، مضت إلى غيابها، والنهار يفتح أبوابه كل صباح، ومع ذلك قلبي يظلّ مشدودًا إلى ظلّها كعصفورٍ سجينٍ يرفض أن يصدّق أن باب القفص قد انفتح . أصرخ وأصرخ، لكن صراخي يرتدّ إليّ كصدى في كهفٍ مظلم. لا يسمع...

بيت من ماء

 "هيا بنا: تعالي إلى مكان لا يطلب منكِ تبريرَ بقاءٍ أو رحيل، ادخلي ببساطةٍ كما تدخلين غرفةً فيها نورٌ هادئ وهواءٌ يحتضِنكِ؛ تأشيرتكِ هنا كلمةٌ واحدة ، صدقي نفسكِ. ابني بيتكِ من ماءٍ رقيقٍ وكلماتٍ مهجورةٍ ولحظات ضعفٍ لا تخجلين منها، تعلمي التنفّسَ تحت سطحِ المألوف ولا تهربي من البحر و  الأمواجِ بل اجعليها تُعلّمكِ كيف تصنعين صدرًا يتسع. الانتماءُ ليس أرضًا تنتظرنا، بل عادةٌ نمارسها: نفتحُ صفحةً يوميةً، نُخرجُ أحلامنا الصغيرةَ من الجيوبِ، ونبني غرفةً واحدةً تسمح لنا بأن نكون، غير مكتملين، متردّدين، ومحبوبين كما نحن." هيا بنا… قلتها وكأنني أتكلم مع أحد لا يجيب، مع ظلّي، أو مع جزء آخر من نفسي لا أراه. لم أعرف من الذي كان يتحدث بداخلي، لكنني شعرت أنني لست وحدي، وكأن هناك أصواتًا تتناوب على النطق بي. البحر لم يكن بحرًا حقًا، ربما كان تعبي الطويل، ثقل الأيام التي تتكرر بلا معنى، محاولاتي للعبور نحو شيء لا أعرف اسمه. والضفة الأخرى لم تكن مكانًا جغرافيًا، بل صورة أتمسك بها كي لا أنهار: حياة جديدة، فرصة أن أكون شخصًا آخر، أرضًا تفتح ذراعيها فتقول لي أخيرًا: انتمِ .   كنت أكتب كما...

دعيني يا أمي، دعيني أتحدث للحياة

دعيني يا أمي، فقط دعيني، لا تشدي على يدي، ولا تحاولي أن تسكبي في قلبي الطمأنينة. أريد أن أتكلم وحدي، أن أواجه وحدي، أن أسقط وحدي. حضنك يذيبني، حضنك يعلّمني النسيان، وأنا لم أعد أريد أن أنسى. لا تجريني إلى الأمان، فقد اخترتُ الممر الذي لا سقف له، الريح تعصف فيه كما تشاء، والشمس تلسع وجهي كما تريد. صدّقيني يا أمي، أحياناً الأمان يكون قيداً، وأحياناً الحنان يخدّر الجرح ولا يداويه .   أيتها الحياة، أيتها التي ألبستِني قسوتكِ منذ اللحظة الأولى، أيتها التي تدّعين القوة وأنتِ في حقيقتكِ أضعف من صرخة طفل، أيتها التي تجري بلا بوصلة، بلا معنى، بلا نهاية… لماذا؟ من أي عمق فيك ينبع هذا العبث؟ من أقنعك أن العدل هو أن تتركينا نُساق إلى التجربة كالخراف؟ من أوهمك أن القسوة تربي، وأن الانكسار يبني؟ أليست هذه مجرد أعذارك لتبرري عجزك الأزلي؟   أنا أراك، نعم أراك، كائنًا ضائعًا في ذاته، تركضين إلى الأمام لتُنسي نفسكِ أنكِ بلا غاية. أراكِ مثل عاشقٍ مهووس يدمّر كل من يقترب منه فقط لأنه لا يعرف كيف يحب. أيتها الحياة، أي حب هذا الذي يزهق الأرواح؟ أي حب هذا الذي يدفن الحلم قبل أن يتفتح؟   ل...

وطنٌ يكتبكِ في الغياب

 نورة... هل تعلمين لماذا لازلت أكتب في حبي لك؟ لأنني حين أمسِك القلم أشعر أنني أمسك بيدك، ولو للحظة. الكلمات هي الجسر الأخير بيني وبينك، الجسر الذي لا يمكن أن تهدمه المسافات ولا أن تمحوه الخيانات الصغيرة التي تصنعها الحياة. لم أنكسر، لا في حبي لك، ولا في قدرتي على أن أُحوِّل وجعي إلى جُمل، وأن أجعل من فقدك حضورًا أبديًا . في اليوم الأول الذي رأيتك فيه، كان في داخلي يقين غريب: أنني إن أحببتك، فلن أسمح للخيانة أن تمس هذا الحب، حتى لو تركتني أنت، حتى لو دفعتني الحياة إلى هاوية الوحدة. كنتُ أعرف أن في داخلي ما يكفي من العناد لأبقى مخلصًا لصورة عينيك، حتى لو غيّبتني عنك الأيام . ربما كنتِ أذكى مني، ربما وجدتِ لنفسك حياة تبدو أكثر راحة، أكثر عملية، حياة فيها شيء من الأمان الذي لم أستطع أن أمنحك إياه. لكنك يا نورة، ستبقين دائمًا خاسرة أمام نصوصي؛ لأن النص أقوى من النسيان، ولأن الكلمة تعرف كيف تُعيد ما محته الأيام. كل جملة أكتبها عنك هي علم يرفرف فوق أرضك، أرضٍ هجرتِها، لكنها لم تهجرك أبدًا . حبي لك لا يُمكن أن يُفهم بعقلية عصرية تحوِّل العلاقات إلى محطات، والناس إلى مراحل، والذكريات...

أغنية الخريف الأخيرة

  يمكنني أن أركب موج الحب، وأجري على أمواج الخلود، كما لو أنني أول عاشق يكتشف سرّ القلب، هذا العضو العجيب الذي لا يعرف سوى لغة واحدة: لغة الوفاء . كل نبضة فيه ليست مجرد حركة بيولوجية، بل قصيدة قصيرة، صرخة صامتة، أو ومضة نور تقول للكون: "ما زلت حياً، ما زلت قادراً على العطاء ". يمكنني أن أمتطي ضوء الحكمة، فأرتفع في سماوات المعرفة، وأطير بعيداً عن حدود الأرض الضيقة، إلى فضاءات حيث الأفكار لا تموت، بل تتكاثر مثل النجوم، وكل نجمة منها دليل على اكتشاف جديد . هناك، أعيش في فضاء يتسع بلا نهاية، أبحر في بحار لا تنضب من المعاني، وأغرف من ينابيع تفيض بالفكر، فأصير جسداً صغيراً يطفو في محيط لا يحده شاطئ . لكنني في آخر المطاف مجرد إنسان ... إنسان وُلد في عالم محدود، تقيّده القوانين، وتحيط به الأسئلة التي لا إجابة لها . إنسان يؤمن بأشياء لا يمكن تفسيرها، يعيش بين اليقين والشك، بين الإيمان والبحث . نشأتُ في تيار تربوي وثقافي يعلّمني أن القيمة الحقيقية للحياة ليست في امتلاكها، بل في منحها للآخرين، في أن أكون مفيداً لهم، حتى لو لم يميزوا بين صوتي وصوت غيري، أو بين وجهي ووجوههم . لك...

الرئة الثانية

أيمكن لإنسانٍ أن يكتب وهو غارق في وجعه؟ أجلس الآن أمام الحاسوب، رأسي مثقل، كأن صخوراً تجمّعت داخله. الصداع يضربني بانتظام، موجة وراء أخرى، كما تضرب أمواج البحر سفينة صغيرة في ليل عاصف. الدخان يملأ الغرفة: سيجارة تحترق ببطء في طرف أصابعي، وأخرى تستعد في العلبة. رائحة التبغ تلتصق بالهواء، تتغلغل في الجدران، تترك في عيني دمعة ساخنة لا تأتي من الحزن بل من الغشاوة. أرفع نظري إلى لوحة المفاتيح، فلا أرى إلا أشكالاً مبعثرة، حروفاً تتراقص في الضباب.  ومع ذلك، أضغط. أضغط كأنني أطرق أبواب النجاة بأصابعي، وكأن كل نقرة مفتاح هي محاولة للبقاء . قد يظنّ القارئ أن الكتابة تحتاج صفاءً وهدوءاً، لكنني أعرف أن ذلك وهم. ما يولد في الصفاء هو كلمات باردة، مرتبة أكثر مما ينبغي، خالية من الارتجاف الذي يجعلها حيّة. النصوص التي تبقى، هي تلك التي خرجت من رحم الفوضى، من قلب الألم، من لحظةٍ لا يجد الكاتب فيها خلاصاً إلا بأن يكتب. إنّني الآن، في هذه اللحظة، لا أكتب حباً في الكتابة، بل لأنني إن لم أفعل سأختنق . الحروف تتساقط ناقصة. الجمل تأتي ملتوية، مشوهة. هناك كلمات لم تكتمل، ومع ذلك أحافظ عليها كما هي. لماذا؟ ...

لن نخاف، لن نتراجع، سنعيش

  هيا بنا أيها الطفل الصغير الذي يختبئ فينا، نغادر الغرفة التي أرهقها صدى الأسئلة، ونمشي إلى فضاءٍ لا يحتاج إلى إذنٍ ليُفتح. نمشي كما لو أن الطريق يعرف أسماءنا منذ البداية، كما لو أن كل حجر تحت أقدامنا ينتظر أن نضع عليه بصمة واحدة ليكتمل شكله. نمشي دون أن نحمل معنا سوى هذا اليقين الصغير: أن الفشل ليس عدوًا يترصدنا، بل رفيقٌ يعلّمنا أن نعيد التوازن حين نكاد نسقط. كم مرةً تعثرنا؟ وكم مرةً ابتسمنا ونحن ننهض؟ في تلك اللحظات أدركنا أن السقوط ليس نهاية، بل طريقة أخرى كي ننظر إلى السماء ونحن على الأرض . لن نخاف. لن نضع أقفالًا على أحلامنا. دعنا نرسمها كما تُرسم الطيور على صفحة الريح، بلا مساطر ولا قياسات. دعنا نتركها تتنفس مثل بذورٍ في تربة رطبة، تبحث عن شمسها الخاصة. كل قلق نحمله في صدورنا ليس إلا غبارًا يثقل الجناح، وكل شكٍ نُطيل فيه النظر يتحول إلى ظلٍّ يلتف حول الضوء. فلماذا نُعطي هذه الأشباح أكثر مما تستحق؟ لنكتب مصيرنا بمدادٍ من الضوء، نخطّه على صفحات لا يعرفها سوانا، ونبتكر منه لغةً لا تُترجم إلى خوف . الغد ليس وحشًا خلف الباب. الغد طفلٌ آخر يقف عند الضفة الأخرى من النهر، يحمل ...

كنت أبحث عن بيت، فوجدت نفسي

  أبحث عن تغيير. ربما هو التغيير نفسه الذي ظل يزورني في أحلامي منذ سنوات، أو لنقل: هو ذلك الشبح الذي كنت أطارد ظله وأنا أتنقل بين المدن، وأنا أكتب في دفاتر الجامعة بالرباط وأرسم لحياتي ملامح أخرى. كنت أتصور أن التغيير هو بيت هادئ، بعيد عن ضوضاء الناس، بيت أملكه وحدي وأجعله يشبهني: بسيطًا، مليئًا بالضوء، واسعًا بما يكفي لأتنفس، ضيقًا بما يكفي ليحفظ دفئي. كنت أريده بيتًا يتركني أبدع فيه كما يبدع طفل حين يجمع قطع الخشب ليبني كوخًا في حديقة بيت قديم، ثم يدخل إليه ليصدّق أن العالم كله له . وحقًا، تحقق لي هذا الحلم،  أو على الأقل هذا ما صدّقته. تحقق في الدار البيضاء، ثم في فاس، وها هو يعيد نفسه الآن في طنجة. الغريب أنني كل مرة كنت أقول: "ها هو التغيير الذي أردته". وكل مرة كنت أصطدم بأن الأمر لم يكن إلا صورة عابرة، وهمًا يتكرر بوجوه مختلفة. مدن تتبدل، بيوت جديدة، أعمال مختلفة، لكن في النهاية، أكتشف أنني أظل أحملني معي، وأنني أنا هو الشيء الثابت وسط كل هذا الترحال . أظن أنني كنت أبحث عن ملاذ، لكنني وجدت مرآة. كنت أهرب من الضجيج، فإذا بي أسمع ضجيجي الداخلي أعلى. كنت أتوهم أن الراح...

صوت خافت يقول: لا بأس

  لم أكن أعرف أن الحظ هو مجرد إحساس ينبت من الداخل، إحساس يزهر في لحظة صدق بين الإنسان ونفسه، حين يحب الخير لنفسه بصدق لا يشوبه طمع ولا خوف. لم أكن أفهم أن الحظ ليس شيئًا يسقط من السماء أو يُوزع على الناس بقدر، بل هو حالة قلبية، انحياز بسيط للجانب المضيء في الذات. لمست ذلك حين مررت بتجارب جعلتني أرى أن ما أظنه صدفة لم يكن صدفة أبدًا، بل كان نتيجة لحبّي لذاتي، لرغبتي أن أكون في سلام معها. ومع ذلك، لا أريد أن أقول إنني محظوظ، لأن الحظ ليس وسامًا يُعلّق على الصدر، ولا شيئًا يُقاس بالآخرين. كل إنسان يحمل في داخله أبوابًا للحظ، يفتحها أو يغلقها بحسب ما يختار لنفسه . لم أكن أعرف أن النجاح ليس محطة تصل إليها، ولا لحظة تصفيق أو كلمات إعجاب، بل هو فكرة تطرق عقلك كل يوم: كيف يمكن أن أكون أفضل مما كنت عليه بالأمس؟ كيف أتعلم من سقوطي دون أن أكره نفسي؟ لم أكتشف ذلك إلا حين واجهت الفشل وجهًا لوجه، ورأيت نفسي في أضعف حالاتي. الفشل كشف لي أن النجاح ليس انتصارًا على العالم، بل مصالحة مع ذاتي. النجاح أن تنهض من تحت الرماد، أن تلمّ شتاتك وتستمر. ومع ذلك لا أريد أن أقول إنني ناجح، لأنني ما زلت في من...

النرد الأول

  كانوا آلهة يلهون في فضاء لا يعرف معنى غير الضحك، يقيمون موائد من نورٍ خفيف، ويرمون النرد بين أصابع من لهب وثلج، كل رقم يسقط كان يثير فيهم قهقهةً أعلى، كأن الأرقام لا تحمل إلا عبثًا، وكأن الكون نفسه ليس أكثر من لعبة ممتدة، لا حساب فيها ولا عاقبة، كانوا يتنافسون لا لينتصر أحد، بل ليمتد اللعب أطول، ولتبقى الأصوات مترددة في الفراغ، حتى جاء يوم وسقطت الخسارة على واحد منهم، فتوقفت الضحكات لحظةً قصيرة، لحظة أثقل من الدهور، ثم التفتوا إليه جميعًا وقالوا: أنت الخاسر، والخاسر لا يعود إلى اللعب، الخاسر هو من يُلقى عليه عبء الجدية، الخاسر هو من يصنع حياة، من ينزل إلى الفراغ ويملأه بما لم نفكر يومًا في ملئه . حملوه مسؤوليةً لم يطلبها، ثم تركوه وانصرفوا إلى لعبهم من جديد، وعاد صوت النرد يرنّ في البعيد كأن شيئًا لم يحدث، أما هو فجلس على حافة العدم، ينظر إلى اللاشيء أمامه كمن ينظر في مرآة لا تعكس وجهًا، شعر بثقلٍ لم يعرفه من قبل، وحين مد يده إلى الصلصال الأول ارتجفت أصابعه، فانبثق الجبل من رعشته، وحين انسابت دمعة من عينه صارت بحرًا لا قرار له، وحين ارتعش صدره صار هواءً ورياحًا، وحين التفت من و...

الأرواح التي لا تضيع

  تبدين لي، كل ليلة، كما لو كنتِ أمامي حقاً. كأنكِ تجلسين هنا، في هذا الكرسي المقابل، تتأملينني بصمت، وتتركين ابتسامتك الصغيرة تُغرقني في دفءٍ أعرف أنه ليس سوى وهماً. أعلم أن ما أراه ليس سوى لعبة الخيال، وأن الصوت الذي أسمعه في داخلي ليس إلا رجع صدى فقدانٍ قديم، لكن قلبي يخدعني ببراءة طفل، فيجعلني أصدق أن حضورك قائم، وأن الفاصل بيني وبينك ليس سوى خطوة أمدّها، فأجدكِ . ولِسوء حظي، فإن هذا الخيال ليس خيالاً عابراً، بل هو أشرس الحقائق. إنه ينهشني ويعيدني إلى دائرة الجنون كل مرة، حتى أكاد أؤمن أنكِ أقرب إليّ من دمي. فأُنادِي باسمك: نورة… ثم أستفيق، فإذا بي أنادي الفراغ. وأنظر بعيداً، فأرى فتاةً أخرى تعبر الشارع، تمضي إلى رجلٍ ينتظرها، فأبتسم بمرارة وأقول: لعلها أنتِ، في حياة أخرى، أو في زمن لم يكتب لي أن أكون فيه . تمرّ الساعات، وأنتِ تقتحمين ذهني آلاف المرّات. أراك أكثر مما يتذكر الصوفي اسم الله وهو غارق في ذكره، حتى يتحول الاسم إلى كيانٍ يغمره من الداخل. أنتِ ذكري وهوسي وصلاة روحي، أُعيد ترديدك في داخلي كأنكِ وردة تسبيحٍ لا تنتهي . أقنعتُ نفسي مراراً أن القصة انتهت، وأن الثلاث ...

البالون الذي أفلت مني

  تمثلين للحياة في حياة واحدة، كأنني أحمل في داخلي مدينتين متناقضتين: واحدة هادئة، طرقها مستقيمة، مصابيحها منظمة، يحكمها عقل يهوى الجداول والتقويمات، يعيش على رتابة رتيبة كأنها موسيقى خلفية لا تنتهي، وأخرى صاخبة، ضاجة بالأسواق والأنوار، تحكمها عاطفة لا تعرف الحدود، تركض في الشوارع حافية القدمين، تريد أن تكون في كل مكان دفعة واحدة، لا تهدأ ولا تكف عن المطالبة بالمزيد. وبين المدينتين، يقف جسدي مثل عامل مطحون يجر العربة بين السوق والمكتب، مرهقًا من الطلبات المتناقضة، فاقدًا لأي عطلة أو مكافأة، مجرد ترس في ماكينة داخلية لا يعرف أحد كيف تعمل. أما أنا فأشعر أنني لست ساكنًا في أي منهما، بل مجرد غريب يطل من نافذة، متفرج على مسرحية عبثية يؤديها ممثلون بلا نص واضح . صارت الأيام عندي نسخًا كربونية، تتوالى مثل أوراق متكررة في ملف قديم: تاريخ مختلف، توقيع مختلف، لكن الختم نفسه حاضر في الزاوية العليا: "ارتباك". أسأل نفسي كل يوم: من الأجدر أن يقودني؟ العقل الذي يزهو بنظامه، أم العاطفة التي تهتف بالحرية؟ وفي كل مرة أظن أنني وجدت الإجابة، أكتشف أنني محامٍ يترافع ضد نفسه في محكمة بلا قضاة ول...

قلب محطم يضيء

  رفعتُ يدي قليلًا، لا لألامس سقف الغرفة، ولا لأجسّ نبض الهواء، بل لأرى كم يمكن لجسدي أن يتباهى أمام الفضاء. لكنني لم أصل إلّا إلى ما فوق عينيّ، والعينان، يا للمفارقة، كانتا تبصران أبعد بكثير مما تبلغه أصابعي. شعرت أن اليد قصيرة مهما امتدت، وأن النظر وحده يملك جناحين خفيين . كنت أجرّب كل شيء بجسدي، كمن يبحث عن أبواب أخرى للمعرفة. أليس الفكر قد أرهقني طيلة هذه السنين؟ مددت عقلي كما يمدّ أحدهم طريقًا في الصحراء، ولم أصل. فقلت: لعل الجسد، بعرقه ونبضه وارتعاشه، يفتح لي منفذًا آخر، منفذًا أصدق من التهويمات المجرّدة . وحيدًا في غرفتي، لم يكن بجانبي سوى الأوراق القديمة والجرائد التي فقدت أخبارها معناها، والكتب التي صارت أثقل من روحي، وجيتارتي التي تصغي أكثر مما تُجيب. أما الموسيقى فكانت تتسلل إليّ كما لو أنني آخر إنسان في الأرض. خوارزميات يوتيوب كانت تختار لي دائمًا جازًا أو جيتارًا كلاسيكيًا، وكأنها تدرك وحدتي وتخاف عليّ من السقوط في صمت أبدي . كنت، وسط هذا الركام، أرغب أن أبوح. أن أركب ظهر الحقيقة لا بالكلمات التي اعتدتها، بل بكلمات تشبه برقًا عابرًا. أردت أن أرسم المستحيل، أن أكت...