وطنٌ يكتبكِ في الغياب

 نورة...هل تعلمين لماذا لازلت أكتب في حبي لك؟ لأنني حين أمسِك القلم أشعر أنني أمسك بيدك، ولو للحظة. الكلمات هي الجسر الأخير بيني وبينك، الجسر الذي لا يمكن أن تهدمه المسافات ولا أن تمحوه الخيانات الصغيرة التي تصنعها الحياة. لم أنكسر، لا في حبي لك، ولا في قدرتي على أن أُحوِّل وجعي إلى جُمل، وأن أجعل من فقدك حضورًا أبديًا.

في اليوم الأول الذي رأيتك فيه، كان في داخلي يقين غريب: أنني إن أحببتك، فلن أسمح للخيانة أن تمس هذا الحب، حتى لو تركتني أنت، حتى لو دفعتني الحياة إلى هاوية الوحدة. كنتُ أعرف أن في داخلي ما يكفي من العناد لأبقى مخلصًا لصورة عينيك، حتى لو غيّبتني عنك الأيام.

ربما كنتِ أذكى مني، ربما وجدتِ لنفسك حياة تبدو أكثر راحة، أكثر عملية، حياة فيها شيء من الأمان الذي لم أستطع أن أمنحك إياه. لكنك يا نورة، ستبقين دائمًا خاسرة أمام نصوصي؛ لأن النص أقوى من النسيان، ولأن الكلمة تعرف كيف تُعيد ما محته الأيام. كل جملة أكتبها عنك هي علم يرفرف فوق أرضك، أرضٍ هجرتِها، لكنها لم تهجرك أبدًا.

حبي لك لا يُمكن أن يُفهم بعقلية عصرية تحوِّل العلاقات إلى محطات، والناس إلى مراحل، والذكريات إلى ألبومات تُحفظ وتُغلق. أنتِ كبرتِ في زمنٍ يُعلِّم الفتاة أن النسيان سهل، أن التعويض ممكن، أن الرجل صفحة يمكن طيّها متى شاءت. لكني لستُ صفحة، يا نورة، ولا أنتِ كتاب عابر في حياتي. أنتِ كينونة امتزجت بروحي حتى صار استئصالك ضربًا من المحال.

إنني أحبك حبًا يتجاوزك ويعود إليك، حبًا يمدّ جذوره في ما وراء المنطق والفلسفة. إنه حب يشبه الصلاة، يشبه التلاوة التي تُقال بصدقٍ حتى لو لم يسمعها أحد. أنا لا أكتبك لأقنعك، ولا لأسترجعك، بل لأخلِّد وفائي أمام نفسي أولًا.

كل ما تكتبينه أنت في حياتك الجديدة، كل نجاح، كل ابتسامة، كل غياب، سيبقى بالنسبة لي فصلًا في رواية لم أنتهِ من قراءتها بعد. أما أنا، فأكتبك كما يكتب التاريخ أمجاده: ليس ليغيّر الماضي، بل ليجعله خالدًا.

هذه الكلمات ربما لن تقرئيها، وربما تضيع في أرشيف الصمت الأبدي، لكنها تبقى شاهدة على أنني لم أكن رجلًا عابرًا، لم أكن عابثًا، بل كنت رجلًا عاشقًا يُجيد أن يظل وفيًا حتى لو صار الوفاء خنجرًا في خاصرته.

أكتبك لأنني، ببساطة، لا أعرف أن أعيش دون أن أكتبك.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")