البالون الذي أفلت مني
تمثلين للحياة في حياة واحدة، كأنني أحمل في داخلي مدينتين متناقضتين: واحدة هادئة، طرقها مستقيمة، مصابيحها منظمة، يحكمها عقل يهوى الجداول والتقويمات، يعيش على رتابة رتيبة كأنها موسيقى خلفية لا تنتهي، وأخرى صاخبة، ضاجة بالأسواق والأنوار، تحكمها عاطفة لا تعرف الحدود، تركض في الشوارع حافية القدمين، تريد أن تكون في كل مكان دفعة واحدة، لا تهدأ ولا تكف عن المطالبة بالمزيد. وبين المدينتين، يقف جسدي مثل عامل مطحون يجر العربة بين السوق والمكتب، مرهقًا من الطلبات المتناقضة، فاقدًا لأي عطلة أو مكافأة، مجرد ترس في ماكينة داخلية لا يعرف أحد كيف تعمل. أما أنا فأشعر أنني لست ساكنًا في أي منهما، بل مجرد غريب يطل من نافذة، متفرج على مسرحية عبثية يؤديها ممثلون بلا نص واضح.
صارت الأيام عندي نسخًا كربونية، تتوالى مثل أوراق متكررة في ملف قديم:
تاريخ مختلف، توقيع مختلف، لكن الختم نفسه حاضر في الزاوية العليا: "ارتباك".
أسأل نفسي كل يوم: من الأجدر أن يقودني؟ العقل الذي يزهو بنظامه، أم العاطفة التي تهتف
بالحرية؟ وفي كل مرة أظن أنني وجدت الإجابة، أكتشف أنني محامٍ يترافع ضد نفسه في محكمة
بلا قضاة ولا شهود، وأن القانون يتغير حسب حالة الطقس الداخلية.
أردت أن أرش قليلًا من ملح الهدوء فوق هذا الطعام الباهت الذي أسمّيه
وجدانًا، لكن الملح انقلب إلى تراب في يدي. أردت أن أذيب شيئًا من سكر الذات لأحلي
مرارة أيامي، لكن السكر اختفى، ربما سافر مع سعادتي التي هجرتني بلا استئذان، هائمة
الآن بين الآخرين، تطير بخفة خلف ضحكاتهم، تاركة لي صمتًا ثقيلًا وارتباكًا أعمى.
الناس من حولي يركضون بمرح خلف بالونات ملونة، يضحكون وكأنهم يعيشون داخل
مشهد سينمائي مُعد بعناية، بينما أقف أنا في شرفتي أتفرج على بالوني الذي أفلت مني
منذ زمن. أراه يصغر شيئًا فشيئًا في السماء حتى يكاد يتلاشى، ولم يعد يهمني إن كان
سيصل إلى يد أحدهم أم سيختفي وسط الغيم، فقد صار بعيدًا لدرجة أنني أشك إن كان ملكي
يومًا. وربما، على نحو ساخر، أكون أنا نفسي قد تبعته مع الراحلين، وما عاد هنا غير
ظلي، يحاول أن يتذكرني.
وأحيانًا أُسلّي نفسي بخيال ساخر: داخلي ليس أكثر من اجتماع إداري متكرر
بلا نهاية. العقل جالس في المقدمة بربطة عنق مشدودة، يوزع أوراق الإحصاءات والنصائح
الباردة، العاطفة تقفز فوق الطاولة وتصرخ مطالبة بموسيقى وألوان، والجسد في المقعد
الخلفي غارق في نوم ثقيل. أما أنا؟ مجرد سكرتير ممل يكتب محضر الاجتماع، مع علمه اليقين
أن أحدًا لن يقرأه. الاجتماع مستمر منذ سنوات، بلا قرارات حاسمة، بلا تصويت، بلا حتى
إعلان عن موعد الجلسة المقبلة.
والأدهى أنني صرت أعتاد هذا التيه. أعيش كالمواطن الذي لا يثق في حكومته
لكنه مع ذلك يذهب بانتظام لدفع الضرائب. أضع منبّهًا كل صباح، أرتب السرير، أكتب قوائم
مهام أعرف أنها لن تُنجز، أمارس حياة شكلية لأوهم نفسي أن هناك نظامًا سريًا يربط هذه
الأيام ببعضها. وحين أنظر إلى نفسي من بعيد، أضحك بسخرية سوداء: كيف أطلب علاجًا للطمأنينة
من ذاتي التي لا تعرف حتى كيف تصف دواءً لصداع بسيط؟
ومع ذلك أواصل. أكتب، أتهكم، أصف، كأن الكتابة آخر ما تبقى لي من يقين،
الحبل الوحيد الذي يربطني بالعالم حين ينهار كل شيء آخر. ربما هي ليست علاجًا ولا مخرجًا،
لكنها على الأقل صدى يثبت أنني لم أمت بعد، وأنني، رغم الغياب، ما زلت أتنفس، وما زلت
قادرًا على تحويل هذا التيه إلى كلمات تشهد أنني كنت هنا، ذات يوم، في مكان ما بين
العقل والعاطفة والجسد.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق