الأرواح التي لا تضيع
تبدين لي، كل ليلة، كما لو كنتِ أمامي حقاً. كأنكِ تجلسين هنا، في هذا الكرسي المقابل، تتأملينني بصمت، وتتركين ابتسامتك الصغيرة تُغرقني في دفءٍ أعرف أنه ليس سوى وهماً. أعلم أن ما أراه ليس سوى لعبة الخيال، وأن الصوت الذي أسمعه في داخلي ليس إلا رجع صدى فقدانٍ قديم، لكن قلبي يخدعني ببراءة طفل، فيجعلني أصدق أن حضورك قائم، وأن الفاصل بيني وبينك ليس سوى خطوة أمدّها، فأجدكِ.
ولِسوء حظي، فإن هذا الخيال ليس خيالاً عابراً، بل هو أشرس الحقائق. إنه ينهشني ويعيدني إلى دائرة الجنون كل مرة، حتى أكاد أؤمن أنكِ أقرب إليّ من دمي. فأُنادِي باسمك: نورة… ثم أستفيق، فإذا بي أنادي الفراغ. وأنظر بعيداً، فأرى فتاةً أخرى تعبر الشارع، تمضي إلى رجلٍ ينتظرها، فأبتسم بمرارة وأقول: لعلها أنتِ، في حياة أخرى، أو في زمن لم يكتب لي أن أكون فيه.
تمرّ الساعات، وأنتِ تقتحمين ذهني آلاف المرّات. أراك أكثر مما يتذكر الصوفي اسم الله وهو غارق في ذكره، حتى يتحول الاسم إلى كيانٍ يغمره من الداخل. أنتِ ذكري وهوسي وصلاة روحي، أُعيد ترديدك في داخلي كأنكِ وردة تسبيحٍ لا تنتهي.
أقنعتُ نفسي مراراً أن القصة انتهت، وأن الثلاث سنوات التي انقضت كافية لدفن أي حب. لكن ماذا أفعل وصورتكِ تُزهر في داخلي كما يزهر شجر اللوز كل ربيع من غير إذن أحد؟ ربما أصبح لكِ طفل الآن، ربما تتهيئين كل صباح لإرساله إلى روضةٍ صغيرة، تبتسمين له كما كنتِ تبتسمين لي يوماً، وتضعين يدكِ على كتفه الصغير كما وضعتِها على قلبي ذات مساء. هذه الصور التي أبتكرها عن حياتكِ ليست قسوة مني، بل هروب إلى الوهم، لعلني أقنع نفسي أنكِ صرتِ بعيدة، بعيدة بقدر ما أنا غارق فيكِ.
لكنني أعترف: لا زلت أحبك. وما الحب الذي يتوقف بعد أعوام إلا حبًّا لم يولد أصلاً. أنتِ الجرح الذي لم يلتئم لأنه صار جلدي كله.
كم مرة سألت نفسي: أهذا مرض؟ أأنا أسيرٌ لهلوسة؟ ربما. ولكن ما المرض إلا صورة أخرى للحب حين يبلغ أقصاه. ألا يقولون إن العاشق هو الذي يختلط فيه النشيد بالجنون؟
كيف أستطيع أن أحب امرأة أخرى؟ أيّ حريةٍ هذه إن كنتُ سجينكِ؟ حين أقترب من أخرى، أرى وجهكِ يطل من بين ملامحها، وأسمع اسمكِ يتسلل من بين حروف كلامها. أيتها المرأة التي لم تترك لي مهرباً، كيف أبدأ مع غيركِ وأنتِ البداية والنهاية؟
وحين يحين الليل، أجد نفسي على حافة سريري، أحدث روحي هامساً: "ماذا تفعلين الآن؟" ويكاد السؤال يقتلني، لأن جوابه يتكرر في داخلي كطعنة: أنكِ في حضن رجل آخر. هنا يرتجف كياني كله، وتشتعل في رأسي نيران الغيرة والخذلان والضياع. لكنني أعلم أن هذا قدركِ وقدري، وأنني لستُ من اختاره قلبكِ.
أحياناً أقول: إنها مأساة. وأحياناً أقول: إنه وفاء. وربما هو ضعف. لكنني أعلم أن الحب ليس ضعفاً، بل هو قوة جارفة، تجرف كل ما عداها، حتى لا يبقى سوى الحقيقة العارية: أنني أحببتكِ. وما زلتُ.
لقد حاولت أن أستريح منكِ، أن أستريح من نفسي، بل أن أستريح من الحياة. لكنني في كل محاولة أكتشف أن وجودي مشدود بخيطٍ رفيع لا ينقطع: فكرة صغيرة مضيئة، تقول لي إن مجرد بقائي على هذه الأرض قد يكون في ذاته أملاً، أملاً بأن أرواحنا قد تلتقي يوماً، في مكان لا يطاله الزمن ولا تحكمه الجغرافيا.
أحياناً أتصور أن الحب بيننا لم يكن حكاية إنسانية عابرة، بل كان نافذة على المطلق. لقد كنتِ مرآتي، وكلما نظرتُ فيكِ رأيتُ نفسي كما لم أرها من قبل. كنتِ السؤال الذي جعلني أفتش عن الله في أعماقي، والجرح الذي كشف لي أن الروح لا تُشفى إلا بالحب.
فإن كانت هذه مأساة، فهي أجمل المآسي. وإن كان هذا ضعفاً، فهو أنبل الضعف. وإن كان وفاءً، فهو وفاء يليق بالخلود.
ربما لن يجمعنا بيت، ولن تجمعنا حياة، لكنني
أؤمن أن الأرواح التي تحب بصدق لا تضيع، بل تُبعث من جديد في عالمٍ آخر. هناك، حيث
لا يفرّق بيننا رجل ولا امرأة، ولا قيد ولا جدار، سألقاكِ. سأمدّ يدي إليكِ فلا
أجد هواءً، بل أجد يدكِ الحقيقية. وسأقول لكِ: "لقد انتظرتكِ دهوراً، ولم
يخنني الحب يوماً".
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق