عاشق احتياط

 من الغريب فعلًا أن تبدأ العلاقة بين الرجل والمرأة من مجرد نظرة عابرة، كأن العين تسقط مصادفة على وجهٍ لم يكن حاضرًا في الذهن من قبل، ثم يشتعل شيء داخلي بلا سبب منطقي، فيتحرك الجسد باندفاع لم يستشر العقل فيه، فيبتسم الرجل، يغازل، يمد خيطًا رفيعًا من الكلمات، يطلب رقمًا أو دعوة صغيرة للجلوس معًا، ثم من هذه التفاصيل التي تبدو بسيطة جدًا، يتفتح باب أوسع، باب يفضي إمّا إلى حبٍ غامض، أو إلى متعة جسدية عابرة لا تحتاج إلى مبررات. واللافت أن المجتمع كله يتعامل مع هذه الطقوس وكأنها بداهة لا تحتاج إلى تفسير، وكأنها اللغة المشتركة التي لا مهرب منها. لكن حين تقف بعيدًا، وترى المشهد بعين متأملة، يتضح لك أن الأمر غريب حد الإرباك: كيف لحياة عاطفية كاملة أن تولد من شرارة صغيرة بلا منطق، بلا أساس، بلا تمهيد؟

أنا بطبيعتي انطوائي، ومن هنا تأتي المفارقة. فكرة أن أتحدث مع فتاة لا أعرفها لمجرد أنني انجذبت إليها تبدو لي أشبه بجريمة صغيرة، أو اقتحام غير مبرر لعالمها. يثقلني الشعور بأن أي محاولة كهذه تحمل في باطنها هدفًا جنسيًا، وهذا ما يجعل الخطوة أكثر إرباكًا، كأنها خروج عن نزاهة الذات. ولهذا وجدت نفسي عاجزًا عن أن أمارس هذه الطقوس التي تبدو للآخرين عادية جدًا. أحاول أن أبرر لنفسي، أن أجد مدخلًا أصدق، أعمق، لكني في النهاية أظل عالقًا في مكاني، أراقب من بعيد، وأكتشف أنني لا أنتمي إلى هذه اللعبة الاجتماعية.

ومع مرور الوقت، وجدت أن الوحدة لم تتركني فارغًا كما توقعت. صحيح أن قلبي ما زال ينبض بالحب، يذكرني بين حين وآخر أنه يتوق إلى حبيبة غائبة، لكنه أيضًا صار يخاطبني بطريقة أخرى، كأنه يطلب مني أن أنسحب من وهم الانتظار، أن أنسى فكرة أن هناك شخصًا بعينه سيملأ هذا الفراغ. وبدل أن أكون عاشقًا يبحث عن الحضور، صرت فيلسوفًا يتأمل الغياب. لم أعد أرى في الحب مجرد علاقة، بل مسألة وجودية، لغزًا يستحق أن يُفكّر فيه أكثر مما يُعاش بخفة.

هكذا بدأت أسأل نفسي: ما معنى أن نحب أصلًا؟ هل الحب لحظة جسدية لا أكثر، أم أنه حاجة روحية تُعيد ترتيب علاقتنا بالعالم؟ لماذا يبدو للبعض سهلًا كالتقاط رقم هاتف، ويبدو لي معقدًا كرحلة في المجهول؟ صرت أرى أن الحب لا ينحصر في امرأة تُقابلك صدفة، بل يمكن أن يكون في فكرة، في كتاب، في موسيقى، في لوحة، في ذلك الارتجاف الغامض الذي يربطك بالحياة ذاتها. وربما، حين لا نتمكن من الدخول في علاقة، نعيش الحب بطريقة أخرى: نصير غرباء يكتبون عنه، أو مفكرين يضعونه على الطاولة كموضوع للتأمل، بدل أن نرتمي في دوامة الطقوس الجاهزة.

ولعل في هذا الوضع قدرًا من النضج، أو قدرًا من الصدق. فأن تعيش وحيدًا لكنك تفكر في الحب بعمق، قد يكون أنقى من أن تدخل في علاقات عابرة لا تعطيك سوى صخب مؤقت. كثيرون يركضون وراء الامتلاء ولا يجدونه، بينما أجد أنا في الفراغ مدرسة داخلية. صحيح أن الوحدة ثقيلة أحيانًا، لكن الفلسفة تخفف ثقلها، تجعلها مجالًا لتأمل صادق، بعيد عن الأقنعة التي يلبسها الناس في لقاءاتهم الأولى. 

ربما سيأتي يوم ألتقي فيه بامرأة تُعيد تعريف كل شيء، لكن حتى ذلك اليوم، أجد نفسي مرتاحًا في مقعد الفيلسوف، أراقب الحب وهو يمر من حولي، أدرسه كما يدرس الشاعر غيمةً عابرة، بلا أن أحاول الإمساك بها. ولعل هذا بحد ذاته شكل من أشكال الحب، حب متأمل، حب ينتمي إلى الداخل أكثر مما ينتمي إلى الخارج، حب يعلمني أن أنصت إلى قلبي حتى وهو يطلب مني أن أنسى.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")