أغنية الخريف الأخيرة

 يمكنني أن أركب موج الحب، وأجري على أمواج الخلود، كما لو أنني أول عاشق يكتشف سرّ القلب، هذا العضو العجيب الذي لا يعرف سوى لغة واحدة: لغة الوفاء.

كل نبضة فيه ليست مجرد حركة بيولوجية، بل قصيدة قصيرة، صرخة صامتة، أو ومضة نور تقول للكون: "ما زلت حياً، ما زلت قادراً على العطاء".

يمكنني أن أمتطي ضوء الحكمة، فأرتفع في سماوات المعرفة، وأطير بعيداً عن حدود الأرض الضيقة، إلى فضاءات حيث الأفكار لا تموت، بل تتكاثر مثل النجوم، وكل نجمة منها دليل على اكتشاف جديد.
هناك، أعيش في فضاء يتسع بلا نهاية، أبحر في بحار لا تنضب من المعاني، وأغرف من ينابيع تفيض بالفكر، فأصير جسداً صغيراً يطفو في محيط لا يحده شاطئ.

لكنني في آخر المطاف مجرد إنسان...
إنسان وُلد في عالم محدود، تقيّده القوانين، وتحيط به الأسئلة التي لا إجابة لها.
إنسان يؤمن بأشياء لا يمكن تفسيرها، يعيش بين اليقين والشك، بين الإيمان والبحث.
نشأتُ في تيار تربوي وثقافي يعلّمني أن القيمة الحقيقية للحياة ليست في امتلاكها، بل في منحها للآخرين، في أن أكون مفيداً لهم، حتى لو لم يميزوا بين صوتي وصوت غيري، أو بين وجهي ووجوههم.

لكن تعبي يلاحقني.
إنني منهك، ومع ذلك أكتب بسرعة، كأنني أهرب من زمن يطاردني، أو كأنني أخشى أن ينطفئ داخلي المصباح قبل أن أفرغ ما يضيئه.
أريد أن أصل إلى نهاية هذه الرسالة، لكن النهاية تتلاشى كلما اقتربت منها.
فأقول لنفسي: دعني أكتب لجدي، دعني أفتح له قلبي، وأترك له ما لم أقدر أن أقوله للحياة.

أتخيل نفسي ورقة سقطت من شجرة في خريف صامت، انقطعت عن غصنها الذي كان يمنحها الحياة. ربما دهسها طفل صغير وهو يركض، يبحث بين الأعشاب عن لعبته التي فقدها، دون أن يدرك أن الورقة التي تحت قدميه كانت يوماً قلباً أخضر نابضاً بالنسغ.
أو ربما أكون حشرة صغيرة عالقة في نهر، نهر يجفّ ببطء لأن الغيوم بخلت بالمطر. تلك الحشرة تعرف أنها لن تنجو، لكنها تظل تتحرك، تحاول الطفو، وكأنها تعلّم العالم درساً في الإصرار.
وربما أتخيل نفسي لحناً، مجرد لحن يتصاعد من قلب فنان وحيد يجلس في غرفته، يعزف كي لا ينهار، كي يُطعم روحه التي ضجّت من حياة بلا معنى. اللحن ليس له جمهور، ليس له تصفيق، لكنه حياة صغيرة، حياة تنبثق من بين أوتار الخشب والروح.

لا أدري... هل أحاول من جديد؟ هل أجرؤ على كتابة فصل آخر من هذه الرحلة، أم أترك نفسي نهباً للتيه؟
يا لهذا النص المليء بالعبث، كأنه مرآة مشروخة لا تعكس وجهي، بل تعكس ما وراء الوجه: الفوضى، القلق، الأسئلة التي تتوالد بلا توقف.

ومع ذلك، لعل هذا العبث هو المعنى نفسه.
فالورقة التي تسقط تعلّمنا هشاشة الوجود.
والحشرة التي تقاوم في النهر تعلّمنا شرف المحاولة.
والفنان الذي يعزف وحده، يعلّمنا أن الجمال قد يولد حتى في العزلة، حتى في اليأس.

ربما أكون كل هؤلاء: ورقة، حشرة، وصوت موسيقى.
وربما أكون مجرد إنسان يكتب ليقنع نفسه أن للحياة معنى، ولو كان المعنى موقتاً، مثل قوس قزح يظهر للحظة بعد المطر ثم يختفي.

ك.ج

 

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")