لن نخاف، لن نتراجع، سنعيش
هيا بنا أيها الطفل الصغير الذي يختبئ فينا، نغادر الغرفة التي أرهقها صدى الأسئلة، ونمشي إلى فضاءٍ لا يحتاج إلى إذنٍ ليُفتح. نمشي كما لو أن الطريق يعرف أسماءنا منذ البداية، كما لو أن كل حجر تحت أقدامنا ينتظر أن نضع عليه بصمة واحدة ليكتمل شكله. نمشي دون أن نحمل معنا سوى هذا اليقين الصغير: أن الفشل ليس عدوًا يترصدنا، بل رفيقٌ يعلّمنا أن نعيد التوازن حين نكاد نسقط. كم مرةً تعثرنا؟ وكم مرةً ابتسمنا ونحن ننهض؟ في تلك اللحظات أدركنا أن السقوط ليس نهاية، بل طريقة أخرى كي ننظر إلى السماء ونحن على الأرض.
لن نخاف. لن نضع أقفالًا على أحلامنا. دعنا نرسمها كما تُرسم الطيور على صفحة الريح، بلا مساطر ولا قياسات. دعنا نتركها تتنفس مثل بذورٍ في تربة رطبة، تبحث عن شمسها الخاصة. كل قلق نحمله في صدورنا ليس إلا غبارًا يثقل الجناح، وكل شكٍ نُطيل فيه النظر يتحول إلى ظلٍّ يلتف حول الضوء. فلماذا نُعطي هذه الأشباح أكثر مما تستحق؟ لنكتب مصيرنا بمدادٍ من الضوء، نخطّه على صفحات لا يعرفها سوانا، ونبتكر منه لغةً لا تُترجم إلى خوف.
الغد ليس وحشًا خلف الباب. الغد طفلٌ آخر يقف عند الضفة الأخرى من النهر، يحمل في يده كوب ماء ويضحك، ينتظرنا كي نعبر. حين نصل إليه لا يصفعنا، لا يعاتبنا، فقط يفتح ذراعيه كأنه يقول: "كنتُ هنا دائمًا، لكنكم كنتم تنظرون إلى غير وجهي."
الأوراق التي مزقناها لم تكن خطيئة. كانت محاولات لتعلّم المشي على حروفٍ لم تتماسك بعد. الورقة الممزقة تعرف أنها مرآة صدئة، وأن صدأها لا ينفي أنها مرآة. كل تلك الأوراق المبعثرة ليست عبئًا، بل تاريخٌ صغير، شهادات تقول لنا: "لقد حاولتم أن تقولوا شيئًا، حتى وإن لم يكتمل." وما تبقى بين أيدينا يكفي. ورقة واحدة صافية تنجو من المقصلة، ورقة تعرف أن الابتسامة أقوى من السكين، وأن السطر المكتوب بطمأنينة يساوي كتبًا كاملة من التردد.
فلنكتب كما نتنفس، لا كما نمتحن أنفسنا. لنضحك ونحن نخطّ، لنترك أرواحنا تتسع مثل البحر، لا يخاف الموج ولا يتردد في الانكسار على الشاطئ. نحن لسنا عبيدًا لشكوكنا، نحن من يصنعها، وبوسعنا أن نتركها تذوب كالملح في ماء صافٍ. حين نُدرك ذلك، سنرى أن الغد يخصّنا، وأن المصير ليس قفصًا بل جناحًا، وأن الرحلة ليست امتحانًا بل قصيدة طويلة تُكتب بالخطوات قبل الكلمات.
نحن بشر، نحمل في قلوبنا بقايا طفولةٍ لا تنطفئ، وأصداء شيخوخةٍ لم تأتِ بعد. نتأرجح بين البراءة والخوف، بين الحلم والجراح، كأشجارٍ تضربها الريح ولا تسقط لأنها تعلّمت كيف تجذّر نفسها في العمق. نحن بحرٌ يتقلب بين المد والجزر، وغابةٌ تمتلئ بأصوات لا نعرف مصدرها، ونجمٌ يتكرر كل ليلة في سماء غريبة. نحن قصيدةٌ لا تنتهي، قصيدة تكتبها يدُ الحياة، بالدمع والضحك معًا.
فلنترك للأرض أن تحفظ خطانا، وللغد أن يتذكرنا
لا كأعداء، بل كرفاقٍ جاءوا ليصافحوه. لنمنحه أسماءنا وضحكاتنا ووعودنا الصغيرة،
تلك التي تقول: "لن نخاف. لن نتراجع. سنعيش." عندها فقط سنفهم أن الغد
لم يكن يومًا خصمًا لنا، بل مرآةً صافية تنتظر أن نجرؤ على النظر فيها.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق