قلب محطم يضيء

 رفعتُ يدي قليلًا، لا لألامس سقف الغرفة، ولا لأجسّ نبض الهواء، بل لأرى كم يمكن لجسدي أن يتباهى أمام الفضاء. لكنني لم أصل إلّا إلى ما فوق عينيّ، والعينان، يا للمفارقة، كانتا تبصران أبعد بكثير مما تبلغه أصابعي. شعرت أن اليد قصيرة مهما امتدت، وأن النظر وحده يملك جناحين خفيين.

كنت أجرّب كل شيء بجسدي، كمن يبحث عن أبواب أخرى للمعرفة. أليس الفكر قد أرهقني طيلة هذه السنين؟ مددت عقلي كما يمدّ أحدهم طريقًا في الصحراء، ولم أصل. فقلت: لعل الجسد، بعرقه ونبضه وارتعاشه، يفتح لي منفذًا آخر، منفذًا أصدق من التهويمات المجرّدة.

وحيدًا في غرفتي، لم يكن بجانبي سوى الأوراق القديمة والجرائد التي فقدت أخبارها معناها، والكتب التي صارت أثقل من روحي، وجيتارتي التي تصغي أكثر مما تُجيب. أما الموسيقى فكانت تتسلل إليّ كما لو أنني آخر إنسان في الأرض. خوارزميات يوتيوب كانت تختار لي دائمًا جازًا أو جيتارًا كلاسيكيًا، وكأنها تدرك وحدتي وتخاف عليّ من السقوط في صمت أبدي.

كنت، وسط هذا الركام، أرغب أن أبوح. أن أركب ظهر الحقيقة لا بالكلمات التي اعتدتها، بل بكلمات تشبه برقًا عابرًا. أردت أن أرسم المستحيل، أن أكتب نصًا لا يقدر أحد على فهمه، حتى أنا. نصًا يشبه كابوسًا جميلاً، أو حلمًا مبللًا بالماء.

استلقيت على أريكتي، وأطفأت ضجيج العالم. دفاتري تنفّست قليلًا من غيابي، وحاسوبي أُغلق كمن أغلق نافذة على مطر لا يريد أن ينتهي. تركت الجسد يذوب في وسادة قديمة، وأطلقت العنان لفكرة واحدة: الحب.

ما هو الحب؟

سؤال هائل كالمحيط، يبتلعني كلما حاولت السباحة فيه. فتحت السؤال كمن يفتح جرحًا، وكلما اقتربت من الجواب، كان يبتعد. ظللت أدور طويلًا في تلك الدائرة، حتى ثقل جفناي، وغفوت. وعندما استيقظت بعد دهورٍ من لحظة واحدة، اكتشفت الحقيقة الصاعقة: أنني لم أفشل في التفكير، ولم أفشل في التجريب… بل فشلت في تضميد قلبي.

قلبي محطم.

لكن هذا التحطّم نفسه دليل أنني أحببت. فالقلب الذي لم ينكسر، لم يذق معنى النور. الحب ليس أن تملك تعريفًا، ولا أن تبني خطابًا فلسفيًا، الحب أن تجرح وتظل حيًا، أن تُكسر وتظل ترى الضوء يتفتت في الشظايا.

حينها فهمت: الحقيقة ليست فكرة، بل تجربة. ليست نظرية، بل نبضًا يركض. ليست عقلًا صافياً، بل قلبًا يتفتّت ويعيد بناء نفسه.

الحب هو الحقيقة الوحيدة التي تحتمل التناقض، الوحيدة التي تُقيم في قلب ناقص، ومع ذلك تمنحه الكمال.

الحب هو المعجزة التي تجعلنا نعيش فوق هشاشتنا.

هو النار التي تحرقنا لكي نضيء.

هو اليد التي تظل قصيرة، لكن عيونها تعانق السماء.

ولأول مرة، شعرت أنني لا أريد أن أجيب: ما هو الحب؟

بل أريد أن أعيش السؤال نفسه، أن أذوب فيه كما يذوب الملح في البحر، أن أستسلم له كما يستسلم الطفل لحلم لا ينتهي.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")