النرد الأول
كانوا آلهة يلهون في فضاء لا يعرف معنى غير الضحك، يقيمون موائد من نورٍ خفيف، ويرمون النرد بين أصابع من لهب وثلج، كل رقم يسقط كان يثير فيهم قهقهةً أعلى، كأن الأرقام لا تحمل إلا عبثًا، وكأن الكون نفسه ليس أكثر من لعبة ممتدة، لا حساب فيها ولا عاقبة، كانوا يتنافسون لا لينتصر أحد، بل ليمتد اللعب أطول، ولتبقى الأصوات مترددة في الفراغ، حتى جاء يوم وسقطت الخسارة على واحد منهم، فتوقفت الضحكات لحظةً قصيرة، لحظة أثقل من الدهور، ثم التفتوا إليه جميعًا وقالوا: أنت الخاسر، والخاسر لا يعود إلى اللعب، الخاسر هو من يُلقى عليه عبء الجدية، الخاسر هو من يصنع حياة، من ينزل إلى الفراغ ويملأه بما لم نفكر يومًا في ملئه.
حملوه مسؤوليةً
لم يطلبها، ثم تركوه وانصرفوا إلى لعبهم من جديد، وعاد صوت النرد يرنّ في البعيد
كأن شيئًا لم يحدث، أما هو فجلس على حافة العدم، ينظر إلى اللاشيء أمامه كمن ينظر
في مرآة لا تعكس وجهًا، شعر بثقلٍ لم يعرفه من قبل، وحين مد يده إلى الصلصال الأول
ارتجفت أصابعه، فانبثق الجبل من رعشته، وحين انسابت دمعة من عينه صارت بحرًا لا
قرار له، وحين ارتعش صدره صار هواءً ورياحًا، وحين التفت من وحشته انفجر الفضاء
بالنجوم، وكل تفصيلة من جسده المتعب تحولت أثرًا في العالم، وكل سهوٍ أو خطأ صار
تضاريسًا وأفقًا.
ظل يخلق بغير
خطة، يجرّب بلا معرفة، كأن الخلق نفسه لعبة ثانية لكنها أثقل، لا تضحك أحدًا سوى
إخوته الذين ظلوا من بعيد يراقبونه، يسخرون من جديته، يرون في عرقه مسرحيةً ممتعة،
بينما هو وحيد أمام عملٍ لا ينتهي، كلما أراد أن يرتاح خرج منه كائن جديد، كلما
تعب أكثر تكاثرت الأشكال: طيور انطلقت بلا سبب، أشجار ارتفعت من غير قصد، أنهار
جرت بلا نية، سهولٌ ووديان، أمطارٌ ورعود، كل شيء كان يتدفق منه مثل نزيف.
وحين لم تعد
وحدته تُحتمل صنع إنسانًا من طين، رفعه أمامه مثل تمثال صغير، نفخ فيه نفسًا
متردّدًا، فإذا به يفتح عينيه ويسأل: من أنا؟ ولماذا هنا؟ ارتبك الإله الخاسر، لم
يعرف جوابًا، لأن السؤال نفسه لم يخطر له، ولأنه هو أيضًا لم يعرف يومًا لماذا
هنا، فاكتفى بالصمت، وكان الصمت أول ميراث ورثه الإنسان.
ومنذ تلك
اللحظة صار الإنسان ظلًّا لذلك العبء، يسير على الأرض كابنٍ لمقامرة قديمة، يحمل
في قلبه سؤالًا لا جواب له، يرفع عينيه إلى السماء فيرى ضحكات الآخرين معلّقة بين
النجوم، يسمع قهقهاتهم في الريح، ويشعر أن وجوده كله ليس أكثر من أثر جانبي لخسارة
إله، نحن أبناء تلك الهزيمة، نركض عبر التاريخ لنجعل من الصدفة معنى، نبني المدن
والقصور والمعابد، نخترع الأديان والأساطير والفلسفات، نكتب الشعر والكتب
والقصائد، نُقيم الحضارات ونخوض الحروب، كل ذلك فقط لنغطي على الحقيقة: أننا خرجنا
من لعبة حظ، وأن أصلنا ضحكة لم تعبأ بنا.
لكن الضحكة لا
تختفي، تبقى في الليل حين تسكت الأصوات، تسمعها إذا أصغيت جيدًا، تتسرب من بين
النجوم، خفيفة وساخرة، تذكّرك أن العالم لم يُخلق بقرار حكيم ولا بغاية نهائية، بل
بخطأ عابر صار مصيرًا، وأنك، مهما سعيت، تحمل في دمك عبث تلك اللحظة، وأنك، كلما
بحثت عن معنى، فإنك لا تفعل سوى أن تواصل اللعبة، لعبة أكبر وأشد قسوة، لعبة تحاول
أن تحوّل العبث إلى قصيدة، والخسارة إلى نشيد، والمقامرة الأولى إلى قدرٍ نعيشه
حتى النهاية.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق