كنت أبحث عن بيت، فوجدت نفسي

 أبحث عن تغيير. ربما هو التغيير نفسه الذي ظل يزورني في أحلامي منذ سنوات، أو لنقل: هو ذلك الشبح الذي كنت أطارد ظله وأنا أتنقل بين المدن، وأنا أكتب في دفاتر الجامعة بالرباط وأرسم لحياتي ملامح أخرى. كنت أتصور أن التغيير هو بيت هادئ، بعيد عن ضوضاء الناس، بيت أملكه وحدي وأجعله يشبهني: بسيطًا، مليئًا بالضوء، واسعًا بما يكفي لأتنفس، ضيقًا بما يكفي ليحفظ دفئي. كنت أريده بيتًا يتركني أبدع فيه كما يبدع طفل حين يجمع قطع الخشب ليبني كوخًا في حديقة بيت قديم، ثم يدخل إليه ليصدّق أن العالم كله له.

وحقًا، تحقق لي هذا الحلم،  أو على الأقل هذا ما صدّقته. تحقق في الدار البيضاء، ثم في فاس، وها هو يعيد نفسه الآن في طنجة. الغريب أنني كل مرة كنت أقول: "ها هو التغيير الذي أردته". وكل مرة كنت أصطدم بأن الأمر لم يكن إلا صورة عابرة، وهمًا يتكرر بوجوه مختلفة. مدن تتبدل، بيوت جديدة، أعمال مختلفة، لكن في النهاية، أكتشف أنني أظل أحملني معي، وأنني أنا هو الشيء الثابت وسط كل هذا الترحال.

أظن أنني كنت أبحث عن ملاذ، لكنني وجدت مرآة. كنت أهرب من الضجيج، فإذا بي أسمع ضجيجي الداخلي أعلى. كنت أتوهم أن الراحة في الصمت، لكنني حين حصلت على الصمت، اكتشفت أن ما بداخلي لا يسكت بسهولة. كل مدينة علّمتني درسًا، لكنها كانت تضعني في مواجهة السؤال نفسه: هل التغيير هو أن تغيّر المكان، أم أن التغيير هو أن تغيّر نظرتك إلى نفسك؟

الآن، وبعد ثلاث محطات كاملة، أدرك أن الهدف لم يكن أبدًا أن أعيش مرتاحًا أو بعيدًا عن الضوضاء. كان الهدف الحقيقي هو أن أتعلم كيف أرى نفسي بصدق، كيف أمد يدي لأتصالح مع ذاتي. التغيير الذي كنت أحلم به لم يكن موجودًا خارج نفسي. لم يكن في الرباط، ولا في الدار البيضاء، ولا في فاس، ولا حتى في طنجة. كان في مكان واحد فقط: في قدرتي أن أقبل هذا الشخص الذي يرافقني منذ ولادتي، أنا.

أضحك حين أفكر: حتى لو ذهبت بعيدًا، إلى كوكب لا يعرفه أحد، إلى مكان يخلو من البشر تمامًا، سأظل ألتقي بالشخص نفسه، سأظل أجد نفسي جالسًا أمام ذلك الكائن الذي لم يتعلم بعد كيف يجد لذة في شيء. ربما هذا هو قدري: أن أتعلم يومًا بعد يوم أن كل رحلة خارجية لا تساوي شيئًا إن لم ترافقها رحلة داخلية أعمق.

التغيير الحقيقي ليس مدينة جديدة، ولا بيتًا بواجهة بيضاء يطل على البحر، ولا عملًا ممتعًا في مكتب مليء بالهدوء. التغيير الحقيقي هو أن أنظر إلى المرآة وأتوقف عن محاكمة نفسي. هو أن أتعلّم كيف أجد المعنى لا في ما أفتقده، بل في ما أملكه الآن.

ربما التغيير ليس حدثًا كبيرًا يحدث فجأة، بل هو عادة صغيرة، أو فكرة صادقة أقولها لنفسي، أو لحظة أقرر فيها أن لا أهرب بعد الآن. وربما التغيير الحقيقي، هو أن أقبل أنني لم أعد ذلك الطالب في الرباط، ولا ذلك الغريب في الدار البيضاء، ولا ذلك الحالم في فاس، ولا حتى ذلك المتأمل في طنجة. أنا كل هؤلاء، وأنا أيضًا شيء أبعد من المدن والأمكنة.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")