المشاركات

عرض المشاركات من أغسطس, 2025

أنا، موج السوق العالمي، وأحلام مجتمع مصممي التعلم المبدعين

أحياناً أشعر أنني أقف على ضفة نهر لا يتوقف عن الجريان، نهر التكنولوجيا التربوية، كل يوم فيه موج جديد، أداة جديدة، اتجاه جديد، وأنا أسبح ما استطعت كي لا أغرق، كي أبقى على انسجام مع هذا المدّ العالمي. ومع ذلك، وسط هذا الصراع، لم أتوقف يوماً عن مدّ يدي للآخرين، للشباب الذين ما زالوا يخطون أولى خطواتهم في هذا العالم الرحب . منذ أكثر من سنتين، تصلني الرسائل عبر "لينكدإن"؛ وجوه شابة متحمسة، أسئلة متعثرة تبحث عن وضوح، أصوات تخاطبني بثقة: "دلّنا على الطريق، أرشدنا، كيف نبدأ؟". لم يكن عندي ما أقدمه سوى وقتي وتجربتي، فكنت أفتح لهم أبواب معرفتي. مرة أشارك مقالة، مرة كتاباً، وأحياناً أفتح شاشة حاسوبي لأريهم كيف تُبنى تجربة تعلم أونلاين، كيف تُستعمل أداة لتصميم بيداغوجي حديث، كيف يُترجم الخيال إلى محتوى تعليمي نابض بالحياة . لم يكن هناك مقابل، ولم أكن أنتظر مقابلاً، سوى أن أرى عيونهم تلمع، وفضولهم يكبر. كنت أؤمن أن هذه الشرارات الصغيرة قد تتحول إلى نار تضيء دروبهم، وقد تضيء دربي أنا أيضاً . لكن حين حاولت أن أجعل الحلم واقعاً، حين جمعت مجموعة من الطلبة في فاس سنة 2023، وجدت نفسي ...

حين لا تكون الشهرة جوابًا

  جلستُ على الكرسيّ كمن يريد أن يُطفئ أنفاسه الأخيرة، وأعلنتُ هدنةً مع كل ما فيَّ مختلف. قلتُ لنفسي: يكفي. لكن المختلف في داخلي لم يعترف بالهدنة؛ بل ضحك كطفلٍ جامحٍ يركض في حديقة خيالي، يكسّر الأسوار ويرسم على جدرانها أشجارًا وألوانًا. حينها فهمتُ: لا يمكنني الانتصار على الحرية، ولا يمكنني تقييد الأحلام، ولا يمكنني إغلاق نافذة الخيال . يا حكيم… من أنت حقًّا؟ أأنت ظلٌّ لكارل جبران؟ أم أن كارل هو القناع الذي ارتداه حكيم كي يتنفس؟ أحيانًا أرى أنكما شخص واحد يتناوب على نفس الجسد، وأحيانًا أراكما مرآتين تعكسان بعضكما، تفضحان سرًّا وتخفيان آخر. تسألني: لماذا تكتب؟ لِمَ تملأ مدونتك بنصوصٍ لا يقرؤها أحد؟ أجيبك: أكتب كي أنقذ نفسي من الصمت القاتل. أكتب لأن الحروف هي الهواء الوحيد الذي يجعلني حرا، لا مسلوبا لِ أو بأحد . سنوات طويلة وأنا أكتب، ثم أغلق نافذتي وأتوارى. قد أبدو منغلقًا، منعزلاً، مجهولًا. لكن، هل تُقاس الكتابة بعدد القرّاء؟ أم تُقاس بصدق اللحظة حين تتفجّر الكلمة من الجرح وتضيء قلب كاتبها؟ المدوّنة، وإن بدت مهجورة، هي بئرٌ سرّية؛ كل كلمة تسقط فيها تترك صدى، وقد يأتي يوم يشر...

النرجسية أم شجاعة التغيير؟

إنني مليءٌ بأحلامٍ تعرف طريقي أكثر ممّا أعرف طريقها. أحلامٌ تبيتُ عند حافّة الوسادة، وتوقظني في الوقت الذي أعِدُها فيه بالنسيان غدًا… ثم لا أنساها. تعيد ترتيب أثاث قلبي كما تشاء، وتترك لي مهمّة جمع الشظايا في دفترٍ أكتب فيه لنفسي فقط، كأنّ السرّ لا يزهر إلا حين لا يراه أحد . أنا لستُ مجرّد شابٍ كُتِب له أن يعيش تناقضات المجتمع، أن يقف في طوابير التأويل، وأن يُوزَّع على خاناتٍ: ذكر/أنثى، موظّف/عاطل، ملتزم/متمرّد. أنا أكثر من استبيانٍ يُملأ بقلمٍ رصاص. أحيانًا أخاف أن أقترب من جوهري؛ أخاف تلك اللحظة التي تلمع فيها مرآتي بلا ضبابٍ، فأرى ما أريدُ وما لا أجرؤ أن أريه لأحد. لذلك ألوذُ بخاطرةٍ تُطفئ عنّي ضجيج العالم، أو بورقةٍ أدفن فيها صرختي كي تظلّ حيّة . أيّها العِلم، يا من تظنّ أنك الحكمُ الأخير على معنى الإنسان، تعال قليلًا: أُجلُّك حين تداوي جسدي، حين ترفع جهلنا عن الكون، لكنّي لا أقبل أن تختزلني إلى معادلة نجاةٍ أو مخططِ سلوك. لستُ مشكلةً لتُحَلّ، بل حكايةً تُروى وهي تتغيّر. ما يقوله قلبي لا تلتقطه أجهزة القياس كلّها؛ وما تلتقطه أجهزتك لا يغني عن سؤالي: لماذا أخترتُ أن أكون أنا؟ إنني ح...

وصية إلى الجيل الجديد

  كبرتُ بين جدرانٍ متشققة في مدرسة الداخلة. بين 2001 و2007 كنتُ مجرد طفل يحمل محفظة أثقل من جسده، يجلس على مقعد خشبي محفور بأسماء الذين مرّوا قبلي. السبورة لم تكن يومًا نظيفة، والطباشير كان يذوب بين أصابع الأستاذ الغاضبة، والدرس كان دائمًا يسبقنا بخطوة لا ندركها. هناك لم أتعلم كيف أحلم، بل تعلمت كيف أختبئ داخل نفسي. كنتُ أكتب على الهامش جملاً لا علاقة لها بالدرس: بيت شعر قرأته صدفة، فكرة صغيرة، أو أمنية غامضة لا يعرفها أحد. تلك الهامشية صارت عالمي الخاص، حيث ولدت رغبتي في أن أكون مختلفًا . انتقلتُ بعدها إلى الإعدادية والثانوية في الجنوب الشرقي، حيث الطريق إلى القسم أطول من الصبر. كنتُ أصحو قبل الفجر أحيانًا، أمشي وسط البرد أو الغبار، أحمل كتبي الثقيلة وأحلامًا خفيفة لا يعرفها أحد. كنتُ أتعلم أن المدرسة ليست مكانًا للتعلم فقط، بل ساحة اختبار حقيقي للحياة. كل يوم كان امتحانًا: امتحان أن أصل، أن أتحمل، أن أستمر. حين حصلت على الباكالوريا سنة 2013، شعرت أنني انتصرتُ في معركة، لا لأنني تفوقت في الدروس فقط، بل لأنني قاومت الطريق الطويل، والظروف الصعبة، والعيون التي كانت تقلل من قيمة أحل...

معجزة التعب

  أحياناً كثيرة أتعجب من نفسي : كيف يا ترى أستطيع أن أكتب، أن أبدع، أن أتشبّث بخيطٍ خفيّ من المعنى، بينما جسدي يئنّ من التعب؟ لا أستطيع أن أركض، ولا حتى أن أتمشى خطوات قصيرة دون أن أشعر بثقل الموت في أطرافي . متعب… كأنني أسير إلى فراش النهاية . ومع ذلك، أفعل ما لا يفعله الرياضيّ الذي يقضي عاماً كاملاً يتدرّب على القوة والصحة . كيف يحدث هذا؟ أي سرّ هذا الذي يوقظني من الرماد؟ لطالما سألت نفسي ولم أجد جواباً . كيف أبقى، رغم الخذلان، رغم انطفاء اللذّة، رغم أنني لم أعد أشعر بحب الحياة كما كان من قبل؟ كيف أظل قادراً على الفعل، على الخلق، على النهوض بالكلمات، بينما كل ما في داخلي يعلن الانكسار؟ غريب… حقاً غريب . لكن ربما هنا يكمن السر : إن التعب الذي ينهك الجسد، هو نفسه الذي يفتح لي أبواباً لا تُرى . الشرخ في الروح هو الذي يُطلّ بي على أفق آخر . كأن العجز يفتح نافذة في داخلي، نافذة تطلّ على شيء أعمق من القوة، أصفى من الصحة، وأبعد من أحلام الأجساد .   أنا الذي ظننت أنني انتهيت، أكتشف كل مرة أن هناك في داخلي شرارة صغيرة، عصيّة على الموت، تظل تتوهّج في العتمة...

حين أمشي بلا كمال

دعني أمشي في هذه الحياة كما أنا، بلا سياج، بلا عصا أحاسب بها نفسي. تعبت من ملاحقة صورة مثالية كأنها طيف يضحك مني كلما اقتربت. الكمال ليس سوى خدعة، مرآة ملساء لا تعكس سوى فراغ، وكلما انحنيت لأرى وجهي فيها اكتشفت أنني ضائع أكثر . أنا لا أريد وجهاً مصقولاً أمام العالم، لا أريد أن أكون نسخة معدّلة من نفسي. أريدني كما أنا: ضعيفًا حين أضعف، قويًا حين أحتدّ، مرتبكًا حين تضيق الطرق. أريد أن أسامح نفسي حين تسقط، أن أحبها حتى في فوضاها، حتى في شتاتها . الفوضى… كم هي جميلة حين لا نخافها. تبدو أولاً كعاصفة، كتشوش، كخطوط متقاطعة بلا معنى. لكن حين أجلس وسطها، أكتشف أن كل عثرة تفتح نافذة، وكل شرخ يضيء. الفوضى ليست عبثًا؛ هي الأم التي تلد الحركة، هي الأرض التي تُنبت من صخبها بذورًا جديدة . أنا لم أعد أرى في النظام خلاصًا. النظام أحيانًا قفص أنيق، يعلّق على جدرانه لوحات مرتبة لكنه يخنق الهواء. الفوضى، رغم ضجيجها، تسمح لي بالتنفس. تمنحني هواءً حرًّا، حتى لو كان عاصفًا، حتى لو حمل غبارًا في رئتي. فما الغبار إلا دليل أنني حي . أريد أن أعيش كما تعيش الغيمة، تتحرك حيثما تحملها الريح، تنهمر مطرًا حين تمتلئ، ...

ابنة الضوء

  يا حبيبتي، إنني لم أحبك كما يحب الناس، لم أتعلق باسمك ولا بوجهك، لم أتتبع جسدك كما يتتبع العاشقون أجساد من يهوون، بل أحببت فيك ما لا يُرى بالعين ولا يُمسّ باليد: روحك التي تضيء عتمتي، ابتسامتك التي تصحّح اعوجاج يومي، نظرتك التي تفتح نافذةً على سكينة الكون. أحببتك لأنك كنتِ انعكاسي، ولأنك كنتِ سرّي الذي لم أبح به حتى لنفسي . ولست أخشى الوحدة، فقد عرفتُها وجعلتها رفيقتي، كما عرفتُ الدموع فجعلتها مطهّري، وكما عرفتُ الألم فجعلته خبزي اليومي. الوحدة لا ترعبني، والفقد لا يطفئني، إنما الذي يزلزلني هو أن أستيقظ يوماً فأدرك أنني لم أحبك أنت، بل أحببتُ وهماً صنعته أوهامي، وأنك لم تكوني إلا صورةً لمخيّلتي، طيفاً نقيّاً منقوشاً على دخان، وما كان بيني وبينك ليس حباً بل حلمَ عاشقٍ وحيد . ولكن حتى لو كان حلماً، حتى لو كنتِ وهماً، فالحب الذي عشته معك هو الحقيقة الوحيدة التي تبرّر حياتي. وإنني لا أخاف أن تصبحي لرجل آخر، ولا أن يتدلى من إصبعك خاتم غريب، فما يتبدّل على الأرض لا يمسّ ما ارتفع في السماء. الجسد يرحل، والاسم يُنسى، والصورة تبهت، لكن الحب حين يولد في الروح يبقى خالداً، لا تقوى عليه ...

حينما التقيت روح كافكا

  لم أعرف أي طريق أسلك… كانت الطرق كلها أمامي كأنها خرائط فارغة، بلا علامات، بلا إشارات. فاتكأت على حائط صغير، حائط لا يتسع إلا لرجل مثقل برأسه، مثلي، رجل يجرّ وراءه ظلّه الطويل المرهق من التفكير والانتظار والخيال. لم أسأل نفسي هل ثمة حائط آخر بقربي، أو هل هنالك آخرون توقفوا كما توقفت… كل ما رغبت فيه أن أترك خطواتي تستريح، أن أجلس في الفراغ وأراقب حياتي تتنفس ببطء . بقيت هناك لساعات طويلة، الزمن كان يذوب من حولي مثل ثلج في كأس ماء. أرتشف من قنينة نصف فارغة وأ مضغ بضع حبات لوز وجوز حملتها معي، لا كزادٍ لطريق، بل كذاكرة للأرض والأشجار. وكلما مضغت حبة، شعرت أنني أمضغ شيئًا من طفولتي، شيئًا من حلمٍ لم يكتمل. وكنت أفكر، أفكر حتى أثقل التفكير عينيّ، حتى بدا لي أن الأفكار ذاتها تبحث عن حائط تستند إليه . وفجأة، كسر الصمت صدى صوت… لم أعرف هل هو نداء بعيد أم صوت صرخة ضاعت في الجبال. استدرت ببطء، فرأيت رجلاً يقترب متعثرًا، كأنه يمشي بين النوم واليقظة. كان يبحث عن وقفة، عن هواء، عن ماء. اقتربت منه، وناولته يدي. حين وقف، كان كمن خرج للتو من أعماق بئر. قال بصوت متعب إنه عطشان. ناولته القنينة...

النجاح والذنب معًا

  أكثر ما يُربكني في هذا الزمن شعوري بأن العدالة غائبة، أو ربما لم تولد أصلًا. نعيش وكأننا في سباق طويل، نركض فيه بلا توقف. سباق لا نعرف قواعده، ولا نعرف من وضع خط النهاية، ومع ذلك نركض لأننا نريد عملاً، لأننا نريد أن نعيش بكرامة . الفكرة موجعة: أن تكون مضطرًا للتميّز فقط كي تضمن لقمة العيش. أن يتحوّل الجهد والإبداع إلى وسيلة للبقاء، لا إلى تعبير عن الذات أو خدمة للآخرين . سنوات طويلة عملت على تطوير نفسي. كتبت، شاركت، علّمت، وساعدت من حولي. أنشأت شبكة، وحصدت فرصًا جيدة بفضل المثابرة والتجربة. لكن بعد هذه السنوات، حين أنظر حولي، أرى شبابًا يتخبطون في بحثهم عن عمل، يتنقّلون من باب إلى باب، وكأنهم غرباء في وطنهم . هنا يطلّ سؤال موجع: ما الفرق بيني وبينهم؟ لست أذكى ولا أصفى ذهنًا، كل ما في الأمر أن الظروف أهدتني نافذة صغيرة تمسكت بها، فيما لم يجدوا هم تلك النافذة بعد. هذا الوعي يجعلني قلقًا. أحيانًا أخاف أن يتابعني شاب أو فتاة يبحثان عن أمل، فيظنّان أن الطريق الذي مشيته مفروش باليُسر، بينما هو مليء بالحجارة والخذلان . لهذا كنت دائمًا أحاول أن أشارك تجربتي كما هي، بلا تزيين. كنت...

نشيد الصبر الأخير

صورة
أفكر كثيرًا: ما الذي يجعلني أصبر؟ ما الذي يدفعني أن أجرّ قدمي كل يوم إلى الغد، وأنا أرى الإنسان يتفتت داخلي ومعه كل المعاني التي حلمت بها؟ إنه ليس صبرًا من أجل أحد، ولا تضحية لأجل أحد، بل صبر الفكرة . فكرة أن تكون حياتي جديرة بأن تُعاش… جديرة بأن تُختتم بطمأنينة، لا بندم . لقد جرّبت الوحدة كما لم يجرّبها أحد . الوحدة التي تأكل قلبك، لا لأنك بلا أحد، بل لأنك محاط بالآخرين، ولا أحد يراك . تحدّث، فيُسيئون الفهم . تحبّ، فيخونون . تسامح، فيظنونك ضعيفًا . تترفع، فيقولون: مغرور . ولم يفهموا يومًا أنني كنت أقاوم، لا لأثبت نفسي عليهم، بل لأبقى وفيًا لذاتي . أحيانًا، كنت أنفجر أمام نفسي، أفعل ما لا أؤمن به . ليس لأنني رغبت فيه، بل لأنني تعبت من صمت الانتظار . مللت من أن أضع حياتي في يد فكرة الوفاء، بينما أرى من حولي يمرّون بالحب كما يمرّون بالمقاهي: يومًا هنا، وغدًا هناك . كأن الجسد مجرد نُزُل، وكأن الروح غير موجودة أصلًا . وأنا… لم أرد كثيرًا . امرأة واحدة تكفيني . حبّ واحد يكفيني . حضن يحميني من البرد الداخلي، وقلب يقول لي: "أنا لك وحدك، وأنت لي وحدي ...

حواريات مارتن و كارل: حين يذوب الإنسان في العدم

شرفة منزل قديم. الليل هادئ، أضواء المدينة تلمع من بعيد . .. كرسيان خشبيان، على الطاولة بينهما إبريق شاي نصف فارغ و شمعة . .. الريح تحرّك ستارة بيضاء خلف النافذة . مارتن (ينظر إلى الأفق، بصوت متسائل) : كارل… هل صحيح أن الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً؟ أقصد… هل يستحيل أن يجمع كل صفات الإنسان الراقي؟ الصبر في التواصل، احترام الآخرين، الإنصات، الصدق بلا كذب، الأمانة بلا غش … ألا يمكن أن يتحقق ذلك؟ كارل (يبتسم ابتسامة حزينة، يحرك فنجان الشاي بيده) : سؤال جميل يا مارتن… وهو من جوهر المشكلات التي لم أجد لها حلاً حتى اليوم . أنا نفسي أقول لنفسي: لا يمكن أن أطبق القاعدة مئة في المئة . لأنني إن فعلت… ربما غدًا سأذوب في العدم… أو أنتحر . مارتن (مستغربًا، يعتدل في جلسته) : قاسٍ ما تقول يا كارل ! اشرح لي… كيف يمكن للكمال أن يقود إلى العدم؟ كارل (ينهض من كرسيه، يتقدم نحو سور الشرفة، ينظر إلى الأسفل) : سأمنحك مثالاً بسيطًا… وربما أنت أيضًا تعيشه . هناك من يتعامل معي بقسوة… فبدل أن أرد عليه بنفس القسوة، أكون طيبًا . وهناك من يحب أن يستغلني… لأن عندي مالاً أو شيئًا يثير حاجته . ...

حواريات مارتن و كارل: أغنية الحزن و الصداقة

  صمت طويل، يقطعه تنفس كارل المرهق. يرفع عينيه نحو النافذة كمن يلاحق طيفًا بعيدًا. مارتن يراقبه، مبتسمًا بنصف ابتسامة ساخر ة... مارتن (بصوت مبحوح كمن يحدث نفسه) : أتعجب منك يا كارل... أراك تصحو قبل الشمس، صائمًا عن الخبز والماء، كأنك تريد أن تحيا من هواء هذا الصباح وحده ... أي قلب هذا الذي يضيق بما وسعه الكون؟ كارل (ببطء، كأن الكلمات تُنتزع من داخله) : لا تبحث في قلبي يا صديقي... فالحزن لا يَسعُه فهم، بل هو نهر جارٍ تحت صخرة لا يراها أحد... أنا مرهق، تائه بين ما كتبت وما لم أكتب، بين ما عشته وما لم أعشه... حتى هذا الكأس من أزير الجبال، لم يشفِ عطشي ... مارتن (يضحك بخفة، ثم يقترب قليلًا) : تكتب وتكتب، حتى غدت مكتبتك مقبرة للأوراق، وكل كلمة فيها شاهد على وجعك ... ألا ترى؟ أنت شاعر يملأ الدنيا أحزانًا، لكن قصائدك تبقى سجينة رفوفك ... كارل (بصوت خافت، متحشرج) : دعني... دعني ألجأ إلى صمتي، ففي الصمت وحده أجد ملاذًا من ضوضاء السؤال . مارتن (ينهض، يخطو ببطء نحو النافذة، ينظر إلى الأفق) : وهل أتركك أسيرًا لصمت يلتهمك؟ لا يا كارل... أنت عزيز عليّ كما الربيع على أغصان ...