وصية إلى الجيل الجديد
كبرتُ بين جدرانٍ متشققة في مدرسة الداخلة. بين 2001 و2007 كنتُ مجرد طفل يحمل محفظة أثقل من جسده، يجلس على مقعد خشبي محفور بأسماء الذين مرّوا قبلي. السبورة لم تكن يومًا نظيفة، والطباشير كان يذوب بين أصابع الأستاذ الغاضبة، والدرس كان دائمًا يسبقنا بخطوة لا ندركها. هناك لم أتعلم كيف أحلم، بل تعلمت كيف أختبئ داخل نفسي. كنتُ أكتب على الهامش جملاً لا علاقة لها بالدرس: بيت شعر قرأته صدفة، فكرة صغيرة، أو أمنية غامضة لا يعرفها أحد. تلك الهامشية صارت عالمي الخاص، حيث ولدت رغبتي في أن أكون مختلفًا.
انتقلتُ بعدها إلى الإعدادية والثانوية في الجنوب الشرقي، حيث الطريق إلى القسم أطول من الصبر. كنتُ أصحو قبل الفجر أحيانًا، أمشي وسط البرد أو الغبار، أحمل كتبي الثقيلة وأحلامًا خفيفة لا يعرفها أحد. كنتُ أتعلم أن المدرسة ليست مكانًا للتعلم فقط، بل ساحة اختبار حقيقي للحياة. كل يوم كان امتحانًا: امتحان أن أصل، أن أتحمل، أن أستمر. حين حصلت على الباكالوريا سنة 2013، شعرت أنني انتصرتُ في معركة، لا لأنني تفوقت في الدروس فقط، بل لأنني قاومت الطريق الطويل، والظروف الصعبة، والعيون التي كانت تقلل من قيمة أحلامنا.
ثم جئتُ إلى الرباط بين 2015 و2020، وكان ذلك انتقالًا من عالم إلى آخر. الرباط لم تكن مجرد مدينة، كانت عالَمًا آخر يضجّ بالتناقضات. فيها الغني والفقير، الحالم واليائس، المثقف واللامبالي. فيها ضجيج الشوارع، وجلسات المقاهي التي لا تنتهي، ونقاشات الجامعة التي تبدأ بالعلم وتنتهي بالسياسة أو الشعر أو لا شيء. هنا، وسط هذه الفوضى، عرفت الحب. لم يكن حبًا طفوليًا كالحب الذي عرفته في ممرات المدارس، بل حبًا ملأ قلبي حد المغامرة. منحت قلبي كما يُمنح وطن، بلا حساب، بلا شروط. كنتُ أعلم أن المجتمع لا يرحم حبًا بلا سند، بلا مال، بلا مستقبل مضمون، ومع ذلك رميت نفسي في البحر. الحب عندنا ليس شعورًا فقط، إنه معركة. كنتُ أعرف أنني أغامر، لكنني لم أتراجع، لأنني لم أتعلم كيف أكون جبانًا أمام قلبي.
ثم جاء الخذلان. لم يكن خذلانًا واحدًا، بل سلسلة من الجراح الصغيرة التي تعلّمك بالتدريج أن الصدق لا يكفي، وأن الحب وحده لا يكفي. في كل مرة كنتُ أُكسر، كنتُ أكتشف أنني أُبنى من جديد بشكل آخر. أدركت أن الخذلان مدرسة لا تُعلّمها الفصول، بل تُعلّمها التجارب: كيف تحب بحذر دون أن تفقد شجاعتك، كيف تثق دون أن تكون ساذجًا، كيف تمنح قلبك لكن دون أن تسلمه كله مرة واحدة.
وفي الرباط أيضًا، اصطدمت بصراع آخر: بين الدين كما يفهمه المجتمع، والتقاليد التي تحاصر، وصوت داخلي يصرخ بالحرية. كنتُ أسمعهم يكررون: "لا تسأل"، "لا تفكر"، "كن مثل الناس". لكنني كنتُ أشعر أنني أختنق إن لم أسأل. كنتُ أرى أن الله ليس في أصواتهم العالية، بل في الصمت العميق الذي يربطك بنفسك. أردت أن يكون إيماني نورًا أتحرك به، لا قيدًا يمنعني من المشي. أردت أن أرى ثقافتي كجسر أعبر به إلى أفق أوسع، لا كسجن يعيدني كل مرة إلى نقطة البداية.
أما الأحلام… فقد كانت دائمًا موضع سخرية. حين كنتُ أحكي عن الكتابة، عن الفن، عن التغيير، كانوا يضحكون. يقولون: "تفاهة"، "صغار تحلمون بما لا تفهمون". لكنني كنتُ أعلم أن السخرية ليست دليلًا على تفاهة الحلم، بل على خوفهم منه. كل فكرة عظيمة بدأت بالسخرية، كل تغيير في التاريخ وُلد من ضحكة استهزاء. كنتُ مقتنعًا أن ضحكهم اليوم سيتحول إلى تصفيق غدًا، إذا واصلنا الإيمان بما نحمله.
اليوم، حين أنظر إلى الوراء، أرى بوضوح ذلك الخيط الذي يربط كل شيء. الطفل في الداخلة وهو يكتب سرّه في دفتر الرياضيات. المراهق في الجنوب الشرقي وهو يمشي الطريق الطويل ليصل إلى القسم. الشاب في الرباط وهو يمنح قلبه رغم أن المجتمع كله يقف ضده. كلهم كانوا أنا. كلهم ما زالوا في داخلي. كلهم يعلّمونني أنني لم أخسر حين حلمت، ولا حين أحببت، ولا حين تمردت… بل كنت أخسر فقط لو استسلمت.
أنا ابن المدرسة العمومية، ابن الجنوب الشرقي،
ابن الرباط. ابن الخذلان والأمل، ابن السخرية والحلم. وفي النهاية، لم يبق لي إلا
يقين واحد: أن أجمل ما يمكن أن يقوله الإنسان للعالم، رغم كل شيء، هو:
"سأكون أنا… ولو ضحكتم علي اليوم."
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق