حواريات مارتن و كارل: حين يذوب الإنسان في العدم
شرفة منزل قديم. الليل هادئ، أضواء المدينة تلمع من بعيد...كرسيان خشبيان، على الطاولة بينهما إبريق شاي نصف فارغ و شمعة...الريح تحرّك ستارة بيضاء خلف النافذة.
مارتن (ينظر إلى الأفق، بصوت متسائل):
كارل… هل صحيح أن الإنسان لا يمكن أن يكون
كاملاً؟ أقصد… هل يستحيل أن يجمع كل صفات الإنسان الراقي؟ الصبر
في التواصل، احترام الآخرين، الإنصات، الصدق بلا كذب، الأمانة بلا غش… ألا يمكن أن يتحقق ذلك؟
كارل (يبتسم ابتسامة حزينة، يحرك فنجان الشاي
بيده):
سؤال جميل يا مارتن… وهو من جوهر المشكلات التي
لم أجد لها حلاً حتى اليوم. أنا نفسي أقول لنفسي: لا يمكن أن أطبق
القاعدة مئة في المئة. لأنني إن فعلت… ربما غدًا سأذوب في
العدم… أو أنتحر.
مارتن (مستغربًا، يعتدل في جلسته):
قاسٍ ما تقول يا كارل! اشرح لي… كيف
يمكن للكمال أن يقود إلى العدم؟
كارل (ينهض من كرسيه، يتقدم نحو سور الشرفة،
ينظر إلى الأسفل):
سأمنحك مثالاً بسيطًا… وربما أنت أيضًا تعيشه. هناك من يتعامل معي بقسوة… فبدل أن أرد عليه بنفس القسوة، أكون طيبًا. وهناك من يحب أن يستغلني… لأن عندي مالاً أو شيئًا يثير حاجته. فإذا فقد حاجته… نسيَني، أو عاملني بنقص. وهناك… وهناك…
الكثير من الأمثلة يا صديقي.
مارتن (بصوت هادئ، يميل للأمام):
فهمت… ولكن… أحب أن تعلّمني
كيف طورت قدرتك على الاستمرار. كيف لم يؤثر فيك جهل الناس أو نقصهم؟ أحيانًا
جهلهم العاطفي والنفسي يجعلهم يعاملونك بعكس سمو فكرك… فكيف لا تنكسر؟
كارل (يلتفت نحوه، يضع يده على السور، يتنفس
بعمق):
أتعلم يا مارتن؟ تعلمت أن أكون
مثل هذه الشرفة… مفتوحة للهواء، لكنها تعرف متى تُغلق ستارتها لتحمي الدفء. إن عاملني الناس بجهل… فلا يعني أنني يجب أن أنزل إلى جهلهم. وإن استغلوني… فلا يعني أنني أُسلم لهم عنقي. الاستمرار لا
يكون بالكمال، بل بالوعي بالنقص… وبالتوازن بين العطاء والحماية.
مارتن (بصوت متأمل، يهمس):
إذن… الفضيلة ليست أن تكون كاملاً… بل أن تعرف
كيف تعيش بنقصك دون أن تفقد نورك؟
كارل (يعود إلى كرسيه، ينظر إلى السماء):
بالضبط… الفضيلة أن تقوم بعد كل سقوط… أن تسامح نفسك قبل أن تسامح الآخرين… أن ترى في النقص
حكمة، وفي العيب إنسانية.
الريح تشتد، تنطفئ الشمعة على الطاولة. يبقى صوت كارل في العتمة:
"لا تبحث عن الكمال… ابحث عن الإنسان
فيك."
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق