حين لا تكون الشهرة جوابًا

 جلستُ على الكرسيّ كمن يريد أن يُطفئ أنفاسه الأخيرة، وأعلنتُ هدنةً مع كل ما فيَّ مختلف. قلتُ لنفسي: يكفي. لكن المختلف في داخلي لم يعترف بالهدنة؛ بل ضحك كطفلٍ جامحٍ يركض في حديقة خيالي، يكسّر الأسوار ويرسم على جدرانها أشجارًا وألوانًا. حينها فهمتُ: لا يمكنني الانتصار على الحرية، ولا يمكنني تقييد الأحلام، ولا يمكنني إغلاق نافذة الخيال.

يا حكيم… من أنت حقًّا؟ أأنت ظلٌّ لكارل جبران؟ أم أن كارل هو القناع الذي ارتداه حكيم كي يتنفس؟ أحيانًا أرى أنكما شخص واحد يتناوب على نفس الجسد، وأحيانًا أراكما مرآتين تعكسان بعضكما، تفضحان سرًّا وتخفيان آخر. تسألني: لماذا تكتب؟ لِمَ تملأ مدونتك بنصوصٍ لا يقرؤها أحد؟

أجيبك: أكتب كي أنقذ نفسي من الصمت القاتل. أكتب لأن الحروف هي الهواء الوحيد الذي يجعلني حرا، لا مسلوبا لِ أو بأحد.

سنوات طويلة وأنا أكتب، ثم أغلق نافذتي وأتوارى. قد أبدو منغلقًا، منعزلاً، مجهولًا. لكن، هل تُقاس الكتابة بعدد القرّاء؟ أم تُقاس بصدق اللحظة حين تتفجّر الكلمة من الجرح وتضيء قلب كاتبها؟

المدوّنة، وإن بدت مهجورة، هي بئرٌ سرّية؛ كل كلمة تسقط فيها تترك صدى، وقد يأتي يوم يشرب أحدهم من هذا الصدى.

تقول لي: وهل الكتابة تكفي لتغيير مشكلات الإنسان؟

أقول لك: إن التغيير ليس زلزالًا دائمًا، أحيانًا هو نسمةٌ صغيرة تغيّر مسار الدخان. الكتابة تُعلِّم الإنسان أن يرى بعيونٍ أخرى، أن يفتح نافذة بدل أن يصطدم بجدار. وما يكفي لإنقاذ روح واحدة هو في ذاته بداية إنقاذ العالم.

لكن لستُ ساذجًا. أعرف أن الكلمات وحدها لا تهدم سجونًا ولا تملأ بطونًا جائعة. لكن الكلمات تُضيء الطريق إلى من يفعل. إنّها الشرارة. الشرارة لا تحرق المدن، لكنها توقظ النار في العروق.

أعترف لك: أحيانًا ينهشني الشك. أسمع صوتًا داخليًا يهمس: “لا أحد يعرفك، لا أحد سيقرأك، ستبقى مجرد عابر في الظل”. لكن صوتًا آخر يرد: “الظل نفسه جزء من الضوء”. لا بأس أن أبقى مجهولًا، ما دامت الكلمات تجد طريقها إلى الهواء.

ثم أتأمل: ربما لا أريد أن أكون معروفًا، بقدر ما أريد أن تكون كلماتي صادقة، حرة، عارية. ما قيمة الشهرة إذا جاءت على حساب النهر الجاري في داخلي؟ أن يعرفني الناس باسمٍ ليس هو أنا، أن يصفقوا لصورةٍ خالية من الرعشة… أيّ معنى في ذلك؟

أنا أكتب، يا حكيم، لا لأصنع بطولة ولا لأزيّن سيرةً شخصية، بل لأترك أثرًا صغيرًا في مجرى الزمن. حجرًا دقيقًا في ماءٍ ساكنٍ. قد لا يراه أحد، لكن الدوائر ستتسع، وستصل يومًا إلى شاطئ بعيد.

فهل تكفي الكتابة؟

لا، لن تكفي أبدًا. لكنها البداية الوحيدة التي أملكها.

ولأنها لا تكفي، أكتب أكثر.

ولأنها لا تشبع الجوع، أكتب كي أُشبع الظمأ.

ولأنها لا تغيّر العالم فورًا، أكتب كي أغيّر زاوية رؤيتي للعالم.

وإذا سألتني غدًا: “لماذا تكتب يا كارل؟” سأجيبك بابتسامة:

أكتب لأتذكّر أنني حي.

أكتب لأن كل كلمة أشبه بزهرة برية تنبت على أطراف الخراب.

أكتب كي لا يبتلعني الصمت.

أكتب، لأن الكتابة… حتى وإن لم تكن كافية، فإنها الطريق الوحيد الذي يليق بروحي.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")