أنا، موج السوق العالمي، وأحلام مجتمع مصممي التعلم المبدعين

أحياناً أشعر أنني أقف على ضفة نهر لا يتوقف عن الجريان، نهر التكنولوجيا التربوية، كل يوم فيه موج جديد، أداة جديدة، اتجاه جديد، وأنا أسبح ما استطعت كي لا أغرق، كي أبقى على انسجام مع هذا المدّ العالمي. ومع ذلك، وسط هذا الصراع، لم أتوقف يوماً عن مدّ يدي للآخرين، للشباب الذين ما زالوا يخطون أولى خطواتهم في هذا العالم الرحب.

منذ أكثر من سنتين، تصلني الرسائل عبر "لينكدإن"؛ وجوه شابة متحمسة، أسئلة متعثرة تبحث عن وضوح، أصوات تخاطبني بثقة: "دلّنا على الطريق، أرشدنا، كيف نبدأ؟". لم يكن عندي ما أقدمه سوى وقتي وتجربتي، فكنت أفتح لهم أبواب معرفتي. مرة أشارك مقالة، مرة كتاباً، وأحياناً أفتح شاشة حاسوبي لأريهم كيف تُبنى تجربة تعلم أونلاين، كيف تُستعمل أداة لتصميم بيداغوجي حديث، كيف يُترجم الخيال إلى محتوى تعليمي نابض بالحياة.

لم يكن هناك مقابل، ولم أكن أنتظر مقابلاً، سوى أن أرى عيونهم تلمع، وفضولهم يكبر. كنت أؤمن أن هذه الشرارات الصغيرة قد تتحول إلى نار تضيء دروبهم، وقد تضيء دربي أنا أيضاً.

لكن حين حاولت أن أجعل الحلم واقعاً، حين جمعت مجموعة من الطلبة في فاس سنة 2023، وجدت نفسي أمام مرآة أخرى. كنت أمنح وقتي، أتابع تطورهم، أفرح بإنجازاتهم الصغيرة، لكنهم كانوا يتأخرون، يعتذرون، يقولون: "عندنا دراسة، لنؤجل اللقاء". شعرت حينها أنني أنا من ينتظرهم، أنني أنا من يحتاجهم، فانطفأت جذوة الحماس، وتوقفت. وكان التوقف أشبه بخسارة معركة داخلية، تركت في قلبي حزناً طويلاً.

منذ ذلك الحين وأنا أطرح على نفسي سؤالاً مُربكاً: هل المشكلة فيّ أنا؟ أم فيهم؟ أم في فكرة المشروع ذاتها؟ أرى مجتمعات مشابهة في أمريكا مثلاً، منصات كاملة ودوائر واسعة من التعلم التعاوني، تلتقي حول شغف التصميم التعليمي والهندسة البيداغوجية. أقول: ربما أستطيع أن أبني شيئاً مشابهاً هنا، في المغرب. لكنني أتردد... أتردد لأنني مختلف: أنا لا أبحث عن ربح سريع، ولا عن شهرة، بل أبحث عن أن يثمر الوقت الذي أمنحه، أن يكون لبذوري جذور في أرض خصبة.

ومع ذلك، فإن فكرة المجتمع لا تفارقني. ربما لم يحن وقتها بعد، ربما كانت محاولتي السابقة ناقصة النضج، ربما لم أُحسن اختيار الفئة أو الوسيلة، وربما كان عليّ أن أتعلم أن بناء مجتمع حقيقي ليس أمراً يُقاس بالأشهر أو السنوات القليلة، بل هو مسيرة طويلة من الصبر، من تكرار المحاولة، من اختبار أشكال مختلفة حتى يُولد الشكل الصحيح.

أحياناً أقول: حتى لو بدأ المشروع من غير ربح، فماذا في ذلك؟ أليس الأثر الذي يتركه في الناس أثمن من أي مقابل؟ ثم أطمئن نفسي: إذا صار المجتمع قوياً وفاعلاً، فإن الأبواب ستُفتح تلقائياً نحو فرص جديدة، مشاريع مربحة، شراكات، وسائل تمويل... لكنها لن تكون الهدف، بل الثمرة التي تأتي في وقتها.

ربما يكون سرّ قصتي كلها هو هذا التناقض الجميل: أنني أُعطي بلا مقابل، وأريد أن أُؤسس بلا خوف، وأحلم أن أُحافظ على نقاء النية حتى وأنا أتعامل مع عالم السوق. وربما هذا ما يجعلني مختلفاً.

لكنني أؤمن الآن أن الاختلاف ليس عائقاً، بل قد يكون مصدر القوة. وأن بذور اليوم، وإن نامت في الأرض سنوات، ستنهض في لحظة ما، وتُخرج من تحت التراب شجرة باسقة. وما عليّ إلا أن أظل أزرع وأروي، بثبات، بصبر، وبإيمان أن الأثر الحقيقي لا يضيع.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")