تمارين في الحرية
مع كل يومٍ جديد، أشعر أنني أتعلم من الحياة أكثر مما كنت أظن، لكنّها دروس لا تُشبه التعليم القديم، لا تُلقَّن من الخارج بل تتكوَّن في الداخل، كأنها تُكتَب في الصمت، حين يتوقّف المرء عن الركض ويبدأ بالإنصات.
أكتشف أن الحياة لم تتغيّر يومًا، وأنها ليست
غامضة كما توهّمت، بل أنا من تغيّرت، أنا من ابتعدت عنها، وانسحبت من دفئها دون أن
أدرك.
كأنني كنت أعيش على ضفّةٍ بعيدةٍ منها، أراقبها
بعين ناقدةٍ لا بعينٍ عاشقة، أفتّش فيها عن المعنى بدل أن أعيشه، أبحث عن اليقين
بدل أن أختبره.
أحيانًا أقول لنفسي: لم تهرب الحياة منّي، بل
أنا من هربتُ منها. ركضتُ خلف أفكارٍ مجرّدةٍ، تصوّراتٍ مثاليةٍ عن الكمال
والصفاء، وظننت أن الحقيقة تُوجد في البُعد، في الانعزال، في الهروب من «العادي».
لكنّ العادي كان هو الحياة نفسها، وكان عليّ أن
أتعلم أن البساطة ليست ضد العمق، بل طريقٌ إليه.
كم من مرة قرأت كتبًا تتحدّث عن الوعي والحرية
والذات، وكنت أظن أنني أفهمها! واليوم فقط أدرك أن الفهم لا يتحقق بالقراءة، بل
بالعبور: أن تمشي وسط الحياة، أن تتألم وتخطئ وتضيع وتنهض، عندها فقط تبدأ
بالمعرفة الحقيقية.
ربما ما أحاول الوصول إليه الآن ليس جديدًا،
ربما سبق أن لمسته في فكرةٍ أو جملةٍ قديمةٍ، لكنّ الفرق أنني اليوم «أراه». لم
يعد فكرًا بل صار تجربة، لم يعد معنى بل صار نبضًا.
هناك صوتٌ في داخلي، قويّ، لا يهدأ، لا يرضى أن
أقبل الأشياء كما هي. صوتٌ يُطالبني أن أعيد خلق الحياة على مقاسي، أن ألوّنها بما
أحبّ، أن أستبدل المسلّمات بالأسئلة، أن أعيش كما أحتاج لا كما يُراد لي.
هذا الصوت ليس سهلاً، إنه يمنحني الحياة ويأخذ
راحتي. يجعلني في توترٍ دائمٍ بين ما أنا عليه وما أريد أن أكونه، بين الرضا
والتمرّد، بين السلام والعطش.
لكنه، رغم قسوته، هو الدليل الوحيد الذي يقودني
نحو ذاتي. فمن دونه كنت سأستسلم للنسخ الجاهزة من الحياة، للرضا الكسول، لزيف
الاكتفاء. ومع كل صراعٍ بيني وبينه، أتعلم أن الحرية ليست أن أفعل ما أشاء، بل
أن أعرف لماذا أريد ما أشاء.
أن أتحرّر من ضروراتٍ ظننتها قوانين، من عاداتٍ
سكنت داخلي حتى حسبتها قدري. أن أعيش من غير أن أكون عبداً لفكرة
«الواجب» أو «النجاح» أو «الضرورة».
كل ما يُقال لنا إنه ضروري، العمل، المكانة،
الرأي العام، الأمان، القبول... كل ذلك مجرد جدارٍ بيننا وبين حقيقتنا الأولى. والحرية ليست أن تهدم الجدار فحسب، بل أن تدرك أنه لم يكن هناك جدارٌ
من الأساس، بل خوفٌ أقمناه بأيدينا.
أحاول اليوم أن أقترب من الحياة كما هي: بلا
شروطٍ كثيرة، بلا دفاعٍ مستمرٍ عن نفسي، بلا رغبةٍ في أن أبدو مفهومًا أو صائبًا.
أريد أن أعيشها ببطء، بصدق، كما لو أن كل لحظةٍ منها هي المرة الأولى والأخيرة في
آنٍ واحد.
أتعلم أن الجمال لا يُكتشَف بالعيون المتعبة من
المقارنة، بل بالعين التي تعرف أن ترى ما هو أمامها كما هو، دون أن تطلب منه شيئًا.
أتعلم أن السلام ليس أن أجد ما أبحث عنه، بل أن
أكفّ عن مطاردة ما ليس لي. في داخلي حنينٌ قديمٌ إلى البساطة، إلى
أن أستيقظ دون فكرةٍ ثقيلةٍ على صدري، أن أشرب قهوتي وأصغي لصوت الحياة وهي تمرّ
في التفاصيل الصغيرة: نسمة، صوت شارع، حوارٌ بعيد، رائحة مطر.
هذه التفاصيل التي كنت أحتقرها وأنا أظنّ أنني أبحث عن "المعنى"، هي اليوم ما يعيدني إلى نفسي.
أحيانًا أفكر أن الحياة ليست لغزًا نحتاج إلى
حله، بل قصيدة علينا أن نتذوّقها. وأن محاولة فهمها بعقلٍ فقط، تُشبه
محاولة قياس ضوء القمر بالمتر. أريد أن أعيش كما يليق بإنسانٍ يُدرك
هشاشته، لا كمن يطارد خلودًا وهميًا. أن أقبل أنني ناقصٌ، متقلّبٌ، متعب،
ومع ذلك أستحق الحبّ والحياة.
وربما تكون الحرية الحقيقية، كما بدأت أفهمها،
هي أن أكون صادقًا في اختياري، وأن أتحمّل ثمن هذا الصدق. أن أقول «لا»
لما لا يشبهني، حتى لو بدوت غريبًا، وأن أقول «نعم» لما يجعل قلبي نابضًا، حتى لو
خسرْت. الحرية ليست في الهروب من الحياة، بل في العودة إليها دون أقنعة. أن أعيشها كما هي، بامتلائها ونقصها، بلحظاتها التي تمنح وتؤلم،
بحضورٍ كاملٍ لا ينتظر مكافأة.
عندها فقط، يمكن أن أقول إنني لم أتعلم من
الحياة شيئًا، بل تعلّمت «أن أكون» فيها. لا متفرّجًا،
ولا ناقدًا، ولا حكيمًا، بل إنسانًا يخطئ ويحبّ ويخاف ويبحث، إنسانًا يتذكّر أن كل
ما هو جميل لا يُملَك، بل يُعاش.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق