ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

السفسطائيون: و هبت رياح المتاعب!

The Sophists (In the second half of the 5th century BCE)
هبت رياح المتاعب في أثينا في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، لكن ما هي رياح المتاعب؟ إنهم السفسطائيون أنفسهم، الذين من الصعب أن نسميهم فلاسفة و سيكون من ضرب المستحيل أيضا أن نبالغ و نقول عنهم حكماءَ، رغم أن كلمة سفسطة كانت تعني آنذاك التخصص في الحكمة.
كتب أنتوني متحدثا عن السفسطائيين و عن السياق التاريخي الذي عاشوا فيه :
" عاش السفسطائيون في أثينا في النصف الثاني من القرن الخامس و شغلوا مناصب سفراء و معلمين خصوصيين ومستشاري علاقات عامة و محاضرين و ممثلي مسرح و كاتبي خطابات و فلاسفة و خطباء ليليين و أطباء نفسيين في آن واحد، أو العديد من هذه المناصب في معظم الحالات على الأقل."[1]
و يضيف أنتوني : " و قبل ظهور هؤلاء الرجال كانت كلمة سفسطائي تطلق على جميع أنواع الحكماء. و من الغريب أنه حتى بعد هذا الوقت استمر بعض كتاب القرن الرابع في استخدام الكلمة للإشارة إلى كل الفلاسفة السابقين حتى طاليس، و لكن في زمانهم اقتصرت الكلمة بصورة رئيسة على الذين يعلمون الناس مقابل المال ، و خاصة من عرضوا تدريس المهارات البلاغية و السياسية و كيفية التفوق في المجالات الأخلاقية و القانونية ."[2]
إن السفسطائيين إذن لمجموعةٌ من الأشخاص تشاركوا جميعا خاصية التفكير السفسطائي، هذه الخاصية التي جعلتهم يتقنون الكثير من المعارف و المهارات خصوصا الخطاب Discourse و يمارسون أنشطة متعددة في مجالات مختلفة و خصوصا التعليم  Teaching.
إن السفسطائي رجل حكيم يعرف الكثير و يكون متخصصا في شيء واحد في غالب الأحيان، يملك معرفة عملية مفيدة يعلمها للناس مقابل الأجر، و في هذا الصدد يذكر أنتوني قصة رواها أفلاطون عن حوار بين سقراط و السفسطائي بروتاغوراس، و هي كالآتي:
Protagoras 486 411 BC
سأل سقراط بروتاغوراس عن طبيعة ما يعلمه لتلميذ من تلاميذه، فأجابه: " أعلمه كيفية الاهتمام بكل أموره الشخصية لكي يحسن إدارة بيته، و أعلمه كذلك الاهتمام بأمور الدولة لكي يصبح قوة حقيقية في المدينة كمتكلم و رجل أفعال."
تتضمن هذه الإجابة الفكرة الأساسية في رسالة السفسطائيين، إنها المعرفة العملية، النافعة و الهادفة، بيد أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فالتاريخ لم يُبرأ السفسطائيين على ما حملوه من أفكار و ما حاولوا مشاركة أهل أثينا من معارف و حكم و مهارات، خصوصا مع أفلاطون الذي عبر عن معاداته للحركة السفسطائية بشكل كبير، حيث قال" إن مهنة السفسطائي  هي الوصول إلى صورة للحكمة دون الحقيقة، و السفسطائي رجل يكسب المال من الحكمة الظاهرية غير الحقيقية".
لكن، ماذا نقصد بالمعرفة العملية النافعة الهادفة عند السفسطائيين؟ و لماذا معرفة مثل هذه ستجعل أفلاطون و غيره من الفلاسفة يعبرون عن عداوتهم لهذه الحركة؟ يجيب أنتوني في هذا الصدد قائلا:" كان هدف هؤلاء السفسطائيين هو الوصول إلى فلسفة تشمل الخبرات اليومية إلا أن هذا الهدف وضعهم وجها لوجه مع أفلاطون في ساحة الفلسفة، فكما رأينا كانت نظرة أفلاطون للمعرفة حبلى بكثير من شعائر الأورفية و الفيتاغورية ، و بالنسبة له و لأسلافه من المفكرين كانت مهمة الفلسفة أن تفتح الطريق إلى ما وراء عالم الحياة اليومية لتنقية حقائق العقل. أما السفسطائيون فقد أرادوا السير في الاتجاه المعاكس، فبالنسبة لهم كان الهدف إعادة صياغة التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها الفوضوية كوسيلة للوصول إلى الحياة المنشودة..." [3]
إن أفكار السفسطائيين أغلبهم كانت تبحث عن طريق للوصول إلى جميع الناس، إن الحركة السفسطائية لم تبحث في الطبيعة أو أصل الأشياء أو كل ما استهوى الفلاسفة السابقين في سؤال الحقيقة و أصل الأشياء... اهتموا بكل بساطة بالحياة اليومية للمواطنين الأثينيين، أرادو أن يعلموا الناس كيف يجب أن يعيشوا و كيف يجب أن يتحدثوا، إنها فلسفة عملية أو طريق إلى بناء فلسفة عملية تخص الناس الواحد منهم بينه و بين نفسه ( أي الفرد) و جميع الناس في ما بينهم( أي الدولة). و تكمن هذه الفلسفة في مبدأين اثنين انبنت عليهما السفسطائية:
أولا:
 "إن الإنسان مقياس كل شيء"، هذه العبارة التي تعود للسفسطائي بروتاغوراس، تعبر عن لب الفكر السفسطائي من جهة أولى، حيث يمكن أن نعيد صياغتها بالطريقة التالية " ما أدركه هو حقيقة بالنسبة لي و ما تدركه أنت هو حقيقة بالنسبة لك"، إن بروتاغوراس بهذا الطرح أعاد المعرفة لكل الناس، بل أعاد السلطة المطلقة لكل إنسان، إنها تمهيد لما نسميه الآن النسبية relativism، أي أن الحقيقة نسبية في حد ذاتها، و كل إنسان يستطيع أن يصل لحقائق تخصه لوحده، و يستطيع أن يطور معارفا تنفعه لوحده، و بهذا يصبح كل مجتمع قادرا على أن يصل لحقائق تخصه وحده و يستطيع  أن يطور معارفا و معتقدات تنفعه لوحده، و لقد تطورت هذه الفكرة فيما بعد على يد الحركة البراغماتية Pragmatism، التي تحدثت عن المعرفة النافعة.
ثانيا:
" إن النصر لا يكون حليفا إلا لمن يتحدث بشكل أفضل" ، هذه العبارة تعبر من جهة ثانية عن لب الفكر السفسطائي، حيث يمكن أن نفهم منها القدرة على الإقناع و المجادلة و استعمال اللغة بشكل جيد، و لقد تميز كل السفسطائيين بمهارة الخطابة والمحاجة، بل إن هذه المهارة تعتبر بمثابة الدرس الأساسي الذي كان يعلمه أغلب السفسطائيين لتلاميذهم. يقول أنتوني في إطار هذه العبارة:
" ...ففكرة النصر لا يحالف إلا من يتحدث بشكل أفضل، ليست بالضرورة دعوة سوداوية أو فاسدة للغش في النزاعات كما اعتقد أفلاطون وغيره من أعداء السفسطائية، بل يمكن اعتبارها إعلانا  لحقيقة الأمور في المحاكم، و بما أن النصر يذهب فعلا إلى من يقدر على الإقناع، فإن مهارات السفسطائيين يمكن ان تكون قوة في سبيل الخير و العدالة  و الحقيقة، و عندما تستخدم هذه القوة بشكل مسئول يمكن أن تعالج العيوب الموجودة في أي نظام قانوني."[4]
إن ظهور السفسطائيين لرياح متاعب حقا، هبت في أثينا، و جعلت من الحقائق التي انفرد بها الفلاسفة السابقون لوحدهم تعود للناس، فما دامت الحقيقة نسبية و مادام كل إنسان مقياس كل شيء، فكل واحد يستطيع أن يصل لحقائقه و يجادل الآخرين ليقنعهم.
لقد دفعت الحركة السفسطائية بالفلسفة اليونانية إلى مرحلة جديدة بإشكالات جديدة، دفعت و بالتحديد أفلاطون إلى أن يقوم بمجهودات كبيرة ليفرق بين الفيلسوف و السفسطائي، و يدافع عن معلمه الشهيد سقراط، الذي رأى فيه أفلاطون رجلا فاضلا يسعى وراء التساؤلات الفكرية الحقيقية على عكس السفسطائيين الذين اختلف سعيهم عن ذلك كثيرا.


[1]  أنتوني جوتليب، حلم العقل، ص 138
[2]  نفس المرجع، ص 140
[3]  نفس المرجع، ص 148
[4]  نفس المرجع، ص 154
كارل جبران