ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

فلاسفة الطبيعة: ولادة النموذج الأصلي 
طاليس الملطي thales of Miletus  ( حوالي 624 ق.م/ حوالي 546 ق.م)
Thales of Miltus
كتب أنتوني جوتليب: " اشتهر طاليس في بلاد الإغريق لعدة أسباب، أشهرها ما لم يقم به في حقيقة الامر، وهو أنه تنبأ بحدوث كسوف الشمس عام 575 ق.م، و قد تأثر الإغريق بشكل عام بهذه النبوءة، حتى إنهم نسبوا إليه لاحقا كما لا يصدق من الحكم اللفظية و الفعلية و الاكتشافات، من إثبات العديد من النظريات الهندسية..."[1]
و كتب أنتوني أيضا: " ... من الخصائص المميزة لما نطلق عليه الآن التفسير العلمي للأمور أن يكون بسيطا قدر الإمكان، ولكن طاليس تجاوز تلك النقطة و حاول اختزال كل الأمور في أمر واحد فقط وهو الماء... كان (أي طاليس)  يسعى على الأقل وراء المعرفة فيما نعتبره الآن المكان الصحيح، عوضا عن تعقيد الأمور من خلال الاستعانة في تفسيره بالكثير من الآلهة." [2]
يعتبر طاليس الملطي من أوائل الفلاسفة الإغريق القدامى في نظر الكثيرين، نموذجا أولا لمن نُطلق عليهم "فلاسفة الطبيعة".  و كما أشار المقتبسان، فإن اهتمامه كان اهتماما متجها لما هو رياضياتي علمي محض، لقد رفض "التفسير الأسطوري للظواهر"* و التجأ للملاحظة و التحليل العقلاني مستنتجا أن الماء هو أصل الأشياء، علاوة على اهتمامه بالنظام الفلكي، الأمر الذي دفعه إلى اكتساب بعض المعارف الفلكية و التنبؤ بما يمكن أن يحدث ككسوف الشمس على سبيل المثال، ثم اهتمامه بالرياضيات، فمن منا لم يسمع بمبرهنة طاليس ؟
 لا بد من الإشارة إلى أن فكرة الماء كانت منتشرة في الكثير من الأساطير و التمثلات الثقافية عند المجتمعات القديمة( كالأساطير المصرية و البابلية)، حيث اعتبرت المياه بمثابة أصل الحياة و الكون، لكن الفرق مع طاليس يكمن في المنهج الاستقرائي، فهو لم يعتبر الماء شيئا مقدسا تتكون عناصره من آلهة أو شيئا من هذا القبيل، إنه مجرد ماء طبيعي، بعبارة بسيطة: الأسطورة جعلت من الماء قصة و طاليس حاول أن يفهم الماء كجوهر طبيعي دون الاستناد لهذه القصة.
  أناكسيماندر Anaximander ( 610 ق.م/ 546 ق.م )
Anaximander
كان أناكسيماندر تلميذا لطاليس الملطي ( على حد ما يُعتقد و يُقال). بيد أنه اختلف في تفسيره للطبيعة عن معلمه، فهذا الشاب كان مُهتَما بالبعد الخفي في عالم الطبيعة، أي أن الملاحظة الحسية ليس الطريقة الفضلى لاكتشاف جوهر الأشياء. هذا البعد الخفي مادةُ تمثل الأصل الخفي في العالم، أطلق عليها اسم apeiron  ، أي "المطلق"، بمعنى اللامحدود.
 وهنا يكمن الاختلاف بينه و بين طاليس الذي رأى في الماء أصل الأشياء، فحسب أناكسيماندر، تأتي الأشياء المدركة بالحواس في مجموعات متناقضة كالساخن و الرطب و البارد و الجاف، إنها عناصر في حالة صراع دائم، كما بالضبط في تعبير الشاعر ميلتون[3]:
"الحر و البرد و الرطوبة و الجفاف، أربعة أبطال يمتلكهم الغضب، يسعون نحو الغلبة."
لقد كان أناكسيمندر موسوعيَ الاهتمام بالطبيعة، بحث  في أصل الكون، حيث رأى أن الكون جاء من كتلة شبهها بالبذرة، انفصلت عن المطلق غير المحدود مُحْتَوية بداخلها العناصر الأولى من المتناقضات كالساخن و البارد التي نمت بداخلها حتى ارتطم بعضها ببعض و كونت الأرض و النجوم.
عبر جوتليب عن هذا قائلا: " انفصلت بيضة أو بذرة أو حبة سماد تحتوي على الأضداد الأساسية، كالساخن و البارد، عن المطلق غير المحدود، ثم أخذت تنمو حتى أصبحت كتلة باردة رطبة محاطة بحلقة من النار، و أدت الصدمة التي نشأت عن ارتطام الساخن بالبارد إلى نشأة غشاوة داكنة بين الاثنين، كون الجزء البارد الأرضَ، أما النار ( أو الجزء الساخن) فقد تكونت منها النجوم.."[4]
و الأرض نفسها حسب أناكسيمندر لا تطفو على ماء كما رأى طاليس، فهي في طرحه ليست بحاجة إلى أية وسادة سواء من ماء أو من اي شيء آخر ليمسكها، إنها ترتكز على مركز الكون الكروي و يدور حولها كل شيء آخر. أضف على ذلك، أن الحياة في هذه الأرض تكونت كما تكونت كل الأجرام السماوية، فبفضل حرارة الشمس تحفزت الحياة و نمت (بمعنى تطورت).
لقد كان خيال أناكسيمندر واسعا، حاول أن يصل إلى حافة الكون من عقله، دون الاعتماد على أية قصة ميثولوجية راجت حوله مجيبة على هذا الطابع من الأسئلة الكلية أو العامة.
  أناكسيمينيس Anaximenes  ( 588/525 ق.م)
قيل أن أناكسيمينيس كان بدوره تلميذا لأناكسيمندر، واختلف عن معلمه كما اختلف الأخير عن معلمه أيضا، غير أن اختلافه لم يكن خيالا أبعد من خيال، بل إنه عاد إلى فكرة طاليس الأولى مقدما طرحا مفاده أن الهواء مكونٌ أصلٌ للأشياء و جوهرها، ففي حركة الهواء يكمن كل تغيير ممكن في الطبيعة.
Anaximenes
اهتم أناكسيمينيس بدوره بأصل الكون (archai)، لكن اعتمادا على فكرة الهواء الذي رأى فيه أكثر من أنه منبع التغيرات في الطبيعة، أي إن الهواء في طرحه صنع منه كل شيء بفضل عملية التخلخل و التكثيف.
و كتب أنتوني جوتليب في هذا السياق:"... فهو يرى (أي أناكسيمينيس) أن الهواء يتخذ أشكالا متعددة على أساس درجة تخلخله أو كثافته، و أكثر هذه الأشكال تخلخلا هي النار، ثم الهواء العادي الذي إن كثفته تحصل على الرياح، و تليه كثافة السحب ثم الماء فالأرض و أخيرا الأحجار، أما الهواء الذي نَتَنَفَسه فهو الحالة الطبيعية للمادة و التي ستعود لها كل الحالات الأخرى، و لكن ما يؤدي إلى اضطرابه هو حركته الدائمة."[5]
   خلاصة
إن كلا من طاليس، أناكسيماندر و أناكسيمينيس فلاسفةٌ استنطقوا الطبيعة كالعلماء،  ينتمون جميعهم للمدرسة الأيونية التي جعلت من الطبيعة مجالا ذا أهمية في البحث، وهذا ما يجعل منا اعتبارهم فلاسفة بالمعنى الفلسفي، لقد دفعهم الفضول و مارسوا الملاحظة العلمية، و فكروا بطريقة مستقلة. و رغم أن أفكارهم بالنسبة لقارئ ناقد، ستبدو أفكارا جد بسيطة، لكنها في الحقيقة أفكار كبيرة و جوهرية في تاريخ العلم و الفلسفة، إنها النموذج الأصلي للنشاط الفلسفي و العلمي.



[1]  أنتوني جوتليب، حلم العقل، ص.25
[2]  نفس المرجع، ص25.
[3] جون ميلتون (1608ـ1674)  شاعر إنجليزي معروف بقصيدة "الفردوس المفقود"
[4]  نفس المرجع ص 32.
[5]  نفس المرجع، ص 36.
* Mythology 

كارل جبران

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")