ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

أناكساغوراس الكلازومني : العقل و المادة

Anaxagoras (c.510 BC, c.438 BC)
كان أناكساغوراس فيلسوفا مُتمردا، فبعد أن انتقل من مدينته الأم Klazomenai  إلى مدينة أثينا، أُشتهِرَ  بين الناس بلقب "العقل". كتب أنتونتي في هذا الصدد: " ... و قد تحمله سكان أثينا قرابة ثلاثين عاما، و أطلقوا عليه اسما يشوبه التهكم إذ سموه (عقل)، و كانوا يلهون بتداول النوادر عن فكاهاته الساخرة و بعده عن أرض الواقع، و لكنهم لم يكونوا ليتساهلوا معه أكثر من ذلك، فاتهموه في النهاية بالفسق، ففر نحو المشرق حتى وصل إلى لامبسكس بعد أن ترك أثرا عميقا في نفوس أهل أثينا."[1] و أضاف جوتليب شارحا فكرة نهاية هذا الفيلسوف: " و تتمثل جريمته المعلنة رسميا ( أي أناكساغوراس) في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست آلهة تستحق العبادة بل أحجار ملتهبة يجب تجنبها، إلا أن العديد من الكتاب القدامى قالوا أن السبب الحقيقي في مقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بريكليس..."[2]
من هذه المقتطفات يمكننا أن نلحظَ إلى أي مدى كان هذا الفيلسوف الإغريقي ذو نظرة مختلفة تماما عن التمثلات السائدة في مدينة أثينا خصوصا، كما يمكننا أيضا أن نفهم من البداية علاقته الوطيدة بالعقل و نظرته الفريدة للمادة. فما هي إذن أفكاره؟ و ما هي الميادين التي اهتم بها كفيلسوف؟ و لماذا وصفه الأثينيون بالفسق و أنه ليس إلا مجرما؟
Anaxagoras
بداية، كان أناكساغوراس معارضا للخرافات بشتى أنواعها، ويعزى هذا إلى تمكنه من استعمال التحليل العقلاني و ملاحظاته المتمحصة في طبيعة الأشياء، الشيء الذي جعل من بعض الشخصيات تتأثر به، خصوصا بيركليس و سقراط.
و قد ذكر أنتوني هذا مشيرا إلى سقراط: " ...قال سقراط إن فلسفة أناكساغوراس هي سبب مهارة بيركليس في الجدل و البلاغة، لكن مهما كانت الآثار الطيبة التي تركتها رؤية أناكساغوراس للعالم على بيركليس لم يكن سقراط ليأخذها كاملة، فقد رأى أنها علمية ضيقة الأفق تهتم كثيرا بالأسباب الميكانيكية للأشياء و تهمل معناها و غرضها."[3]
هذا، إن أشار لشيء فإنما يشير على أن أناكساغوراس كان ذا فكر انسجمت فيه مبادئ الفلاسفة السابقين بشكل بديع، فلم يكن مع الطبيعيين لدرجة التوافق الكامل معهم، و لا حتى مع العقلانيين ( خصوصا بارمنيدس)  لدرجة رفض مبادئ الطبيعيين كلها، و كتب أنتوني موضحا هذه المفارقة قائلا: "...استعار أناكساغوراس أفكار الملطيين عن فصل السمات المتضادة و طورها من ناحيتين أساسيتين، أولاهما: أنه أتى بفكرة جديدة بأن كل أنواع المواد كانت موجودة في المزيج الأصلي رغبة منه في التوفيق مع مبدأ بارمنيدس القائل أنه لا يمكن لشيء أن ينشأ عن شيء لآخر ، و الآخرى : أنه أتى بقوة خارجية في صورة العقل لتفسير الحركة، إلا ان هجوم بارمنيدس حيره حتى شعر بالحاجة لإيجاد  تفسير لها، و لم يستطع أن يقبل الحركة كأمر مسلم به كما فعل الملطيون."[4]
 و أضاف جوتليب في نفس السياق قائلا: " لقد انطلق أنكساغوراس من النقطة نفسها التي انطلق منها إمبيدوكليس، لكنه انتهى في نقطة مخالفة تماما. فإذا كان إمبيدوكليس قد ضاعف الحقيقة الواحدة السرمدية غير القابلة للانهيار لدى بارمنيدس و أتى بالعناصر الأربعة الخالدة غير القابلة للانهيار، فإن أنكساغوراس  كان يطمح إلى مضاعفة عالم ما وراء الطبيعة بطموح أكبر من ذلك، فقال إن كل المواد خالدة و غير مخلوقة و غير قابلة للانهيار ، و يمكننا تبين مصدر هذه الفكرة إذا نظرنا إلى السؤال الغريب الذي اعتراه: كيف للشعر أن ينشأ من غير الشعر؟" [5] السؤال الذي أوصل جوتليب لاستنتاج الفكرة الجوهرية التي عبر عنها كالآتي: " ...و تتمثل فكرة أنكساغوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من الكثير من المواد الأخرى. و تقدم هذه الفكرة حلا لمشكلة تحول الشيء إلى شيء آخر، لأنها تقول أن المادة الجديدة كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت، إذن فليس هنالك جديد فيما ينشأ..."[6]
بعبارة أخرى، تقوم نظرية أناكساغوراس على أن العقل هو القوة المتحكمة في حركة الكون و المواد، و أن المواد بذاتها تتكون من بعضها البعض، أي أن في كل مادة معينة أجزاء من مواد أخرى، كمثال الشعر، فالشعر كمادة لا يتكون من مادة "الشعر" فقط، بل من مواد أخرى، حيث أن الشعر ينمو بطريقة أو بأخرى بفضل الغذاء المتنوع الذي نأكل، و ليس بسبب أكلنا لمادة "الشعر".
و كتب أنتوني بخصوص أن العقل قوة متحكمة في الأشياء : " لقد رأى أناكساغوراس إذن أن العالم مُتْخَمْ يشبه  عددا لا نهائيا من الصناديق الصينية متدرجة الحجم، يحوي كل منها الآخر بداخله، لكن كيف وصل الأمر إلى ذلك؟ لقد فسر إمبيدوكليس طريقة ترتيب الأشياء في الكون باستحضار قوى الحب و الصراع المستخدمة في فلسفته، و التي جعلت العناصر الأربعة الأصيلة تلتحم و تنفصل بالتبادل حتى أخذت الأشكال المتنوعة و المتغيرة التي  نراها اليوم، أما أناكساغوراس  فقد استحضر قوة أقل حيوية ولكنها تنم عن اختيار أبعد من حيث الخيال ألا وهي قوة العقل، فقال أنه في البداية كانت هنالك كتلة جامدة و غير متمايزة من الأشياء تتكون من كل المواد بعضها مع بعض ، ثم بطريقة ما بدأ العقل بتحريك الأشياء."[7]
لكن ما العقل عند أناكساغوراس؟ يجيب أنتوني : " لقد تحدث أناكساغوراس عن عقله  باعتباره كيانا يملك المعرفة الكاملة عن كل شيء و يمتلك أعظم القوى  و على أنه شيء لا نهائي و مستقل و واحد و قائم بذاته و منفصل عن المادة العادية..."[8]
إن أناكساغوراس قدم نظرة ثنائية للعالم، تجمع بين العقل و المادة، الأول معنوي مستقل عن المادة يميزه الذكاء، و الثانية عالم المادة الصلبة العجماء التي لا تتحرك و لن تتحرك إلا بالعقل نفسه.
لقد وازن أناكساغوراس بين نظريتين متضادتين بأن جعل في العقل حل كل المشكلات التي يمكن أن نقف أمامها إن قمنا بتفسير العالم من جانب مادي فقط أو من جانب عقلاني فقط، بطريقة أخرى، يرى أناكساغوراس أن العالم ما هو إلا مجموعة من الظواهر و ما الظواهر إلا لحمة من الغموض و الإبهام التي رسمتها الحواس، و يتدخل العقل  ليوضح ما رسمته الحواس و توصلت إليه، و انطلاقا من هذه الفكرة استطاع أناكساغوراس أن يطور قدراته في تحليل ظواهر متعددة أشار إليها أنتوني قائلا: " و من ضمن الأشياء التي تفكر فيها أناكساغوراس الطقس و بعض جوانب علم الأحياء و الإدراك بالإضافة إلى علوم الكون و الفلك و غيرها من الأمور، و يبدو أنه أدرك أن القمر لا يأتي بضوئه من الشمس و أن ظل الأرض هو المتسبب في  خسوف القمر..." [9]
لم يصف الأثينيون أناكساغوراس بالعقل هكذا عبثا، و لم يتأثر به بيركليس من جهة حتى أًصبح  تلميذا و صديقا له ، و لا سقراط من جهة أخرى حتى انتقد فكره ليصل إلى نتائج جديدة ترفع بالفلسفة اليونانية إلى مستويات جديدة و متقدمة في فهم الظواهر و تحليلها.
لقد تميز هذا الفيلسوف بجرأته على نقد الخرافات، و دعوته الجميع إلى استعمال العقل الذي بَجَلَه ولكن بطريقة تختلف عن إلهة بارمنيدس، إن عقل أناكساغوراس بانسجامه مع المادة ترك أثرا كبيرا في نفوس الأثينيين.
في عبارة واحدة: إن أناكساغوراس لنقطةُ تحولٍ كبيرةِ في تاريخ الفلسفة اليونانية مهدت الطريق لفلاسفة جدد للوصول إلى نتائج أكثر دقة، خصوصا مع ديموقريطس.



[1]  أنتوني جوتليب، حلم العقل، ص 112
[2]  نفس المرجع، ص 112
[3]  نفس المرجع، ص 114
[4]  نفس المرجع، ص 119
[5]  نفس المرجع، ص 116
[6]  نفس المرجع، ص 117
[7]  نفس المرجع، ص 118
[8]  نفس المرجع، ص 119
[9]  نفس المرجع، ص 120
كارل جبران