احتجاج بلا بوصلة

 إنني كثيرًا ما أتساءل: أيّ عالم هذا الذي نعيش فيه؟ عالم يبدو وكأنه بُني على أساسٍ من الوهم، حيث الحقيقة ليست سوى نسخة مصطنعة، صاغها أصحاب النفوذ بعناية ليبقى الناس تحت قبضتهم. الحقيقة هنا لم تعد بحثًا عن معرفة أو قيمة، بل صارت أداة للهيمنة. أشعر أنني أمام مسرح ضخم، تُوزَّع فيه الأدوار على الشعوب، بينما النص الأصلي مكتوب في مكان آخر لا نراه.

في هذا المسرح، يظهر الشباب، بحشودهم، بأصواتهم العالية، بأجسادهم المتدفقة في الشوارع. لكن السؤال الذي لا يفارقني: ماذا يريدون حقًا؟ هل هو تغيير حقيقي للبنية الفاسدة التي يعيشون تحتها، أم مجرد صرخة لإثبات الوجود أمام عالم لا يسمعهم؟ غوستاف لوبون، قبل أكثر من قرن، حذّر من قوة الجماهير حين تتحوّل إلى عقل جمعي فاقد للوعي الفردي. الجماهير قد تُبدع في خلق طاقة للتغيير، لكنها في الوقت نفسه قد تتحوّل إلى أداة هدم لا تدرك ما تفعل.

إنني أشعر بالرهبة وأنا أرى الشعارات تُرفع باسم الحرية والعدالة، ثم تنقلب في لحظة إلى تخريب وتكسير. لا يمكن أن يكون التغيير بهذه الطريقة، فالتاريخ يعلمنا أن الخراب لا يلد سوى خرابًا أكبر. الثورة الحقيقية لا تعني أن نحرق ما هو قائم ثم نترك الرماد، بل أن نمتلك رؤية، بناءً، مشروعًا طويل النفس. لكن ما أراه اليوم، هو أجيال تبحث عن صورة النضال أكثر مما تبحث عن معناه.

أحاول أن أكون عادلًا في حكمي. لا أريد أن أقسو على هؤلاء الشباب، فهم أبناء واقع مضطرب، محاصر بالتناقضات، محطم الآمال. وربما لا ذنب لهم في ضياع البوصلة. ولكن الحزن يملأني حين أرى من بينهم من يهدم مدرسة قد يحتاج أبناءه إليها غدًا، أو يحطم نافذة مكتبة ربما يفتقر إليها في لحظة وعي لاحقة. ما معنى الحرية إن كانت تفترس أدوات المعرفة؟ وما معنى النضال إن كان يزرع الخوف في قلوب الأبرياء أكثر مما يزرع الأمل؟

الثورة الحقيقية، في نظري، ليست صرخة عابرة، ولا فعلًا فوضويًا يستعرض القوة للحظة قصيرة. الثورة هي وعي. هي قدرة على الحلم برؤية واضحة. هي مشروع يوازن بين الغضب والخيال، بين الرفض والبديل. أن تكون ثوريًا يعني أن تملك الجرأة على مواجهة الذات قبل مواجهة السلطة، وأن تؤمن أن البناء أصعب وأشرف من التدمير.

لقد رأينا عبر التاريخ أن الشعوب لا تتحرر فقط عبر الانتفاضات العشوائية، بل عبر مشاريع فكرية وثقافية عميقة. الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، لم تُنتج الحرية مباشرة؛ بل غرقت أولًا في رعب المقاصل والفوضى، قبل أن تنضج لتؤسس قيم الجمهورية. وفي عالمنا العربي، كم من ثورة بدأت بنداء نبيل ثم انزلقت إلى أتون صراع دموي أضاع الحلم بدل أن يحققه.

إنني، وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أنطلق من عداء، بل من حب عميق. أعتبر نفسي ثوريًا في جوهري، ربما أكثر من كثيرين يرفعون الشعارات في الساحات. ولكن ثورتي تؤمن أن الكلمة أحيانًا أقوى من الحجارة، وأن الوعي أصل كل فعل. وما أخشاه هو أن تتحول الأجيال الجديدة إلى وقود في معركة بلا بوصلة، يستهلكها الغضب ويتركها خاوية بعد أن يخمد دخان الحشود.

هذه ليست دعوة إلى الاستسلام، بل إلى إعادة التفكير. إلى أن نفهم أن العالم الخاطئ لا يُصلح بخطأ آخر. وأن الحرية لا تُبنى بالتخريب، بل بالوعي والصبر والإصرار على البناء. فالثورات التي لا تحمل مشروعًا واضحًا، تتحوّل سريعًا إلى فوضى. أما الثورات التي تقوم على الفكرة والمعرفة والخيال، فهي وحدها التي تكتب التاريخ.

ك.ج

 

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")