حبة سكر على رصيف الوجود

 تتشابك الأفكار في رأسي كما تتشابك خيوط الليل مع الفجر؛ لا أعرف متى تنتهي إحداها لتبدأ الأخرى، ولا أجد فاصلًا بين الصخب والصمت. كأنني أقف وسط طرقان متقاطعة، كل واحدة منها تلمح لي بظلّها ثم تخفي وجهها. أحيانًا أشعر أنني أعيش داخل زحام من مرايا، كل واحدة تعكس صورتي، لكن لا واحدة منها تكشف لي حقيقة ملامحي. 

ولم تكن وحدها أسئلة الفكر هي ما أثقلني، بل كانت تلك العاطفة الإنسانية التي تجري في داخلي كأنهار لا تهدأ؛ تصبّ في روحي ولا تمنحها الراحة، تُفيض عليّ بالحنين والقلق معًا، حتى غدوتُ غريبًا في مدينتي الداخلية، غريبًا في وطن القلب.

لقد كتبت كثيرًا عن هذا، كتبت حتى صارت الكلمات تشبه صدى أسمعه في كهف قديم. أكتب عن الخلاص كأنني أطارد طيفًا، كلما اقتربت منه، ابتعد عني أكثر. بحثت عنه في الكتب المصفوفة كجنود صامتين، وفي النقاشات التي تُنهك الحناجر وتترك الصمت معلّقًا، وفي السفر حين كنت أظن أن تغيير المكان يعني تغيير المعنى، وفي التأمل حين أغمضت عيني بحثًا عن نور لم يأتِ، وحتى في الأخطاء والتهور والجرأة. ومع ذلك، بعد أكثر من عشر سنوات، ما زلتُ أجد نفسي في الدائرة ذاتها؛ كأن الزمن يمضي عليّ وحدي، أما الحياة فتقف ثابتة في مكانها، كجدار عتيق لا يتزحزح، يفرض علينا نحن أن نتغيّر أمامه، بينما هو يظل شامخًا لا ينكسر.

أنا تائه، وأعترف بذلك. تائه في دهاليز هذه الأسئلة الوجودية، أمد يدي نحو الخيط فلا أمسك إلا دخانًا. ومع ذلك، لم أتوقف عن الكتابة. أكتب كأنني شخصية في رواية لم يخطط لها مؤلف، بل تُكتب لحظة بلحظة، بكامل عشوائيتها وغموضها. شخصيتي تُركّب نفسها من كل ما يمر بها: الحزن، الضحكة العابرة، الخوف، الرغبة، وحتى لحظات الصمت المديد.

لكن شيئًا في داخلي بدأ يهمس: كفى. كفى من الدوران في هذه الدوامة الثقيلة. أريد أن أتنفس شيئًا آخر، أريد أن أفتح نافذة صغيرة في جدار هذا الغموض، وأطلّ منها على مشهد بسيط، مشهد يذكّرني أن الحياة ليست كلها جدارًا وسؤالًا.

أريد أن أكتب عن نملة. نعم، نملة صغيرة، تسير فوق حجر داكن في رصيف مهمل، تحمل نفسها بكل ثقلها نحو شيء لا يتجاوز حبة سكر. أراها تتمشى بعناد، تصعد المرتفعات الدقيقة، تنزلق أحيانًا ثم تعاود المحاولة، تلتف حول عوائق لا نراها نحن، لكنها تراها جبالًا. لا تسأل نفسها لماذا، ولا تتوقف لتفكر في معنى الطريق، لا تسأل عن خلاص ولا عن جدار عتيق، كل ما تعرفه هو تلك الحبة البيضاء التي تبعث في روحها الصغيرة يقينًا لا يتزعزع. 

كم تبدو الحياة بسيطة حين ننظر إليها من زاوية النملة. فهي تمشي، وتكافح، لكنها لا تحمل على ظهرها تاريخًا ولا فلسفة. تمشي كما لو أن الخطوة هي المعنى. ربما، وأنا أراها، أدرك أنني أسرفت في البحث عن الخلاص كأنه كنز مدفون، بينما قد يكون الخلاص في أن أمشي مثلها: بخفة، بيقين صغير، نحو سكر بسيط، نحو لحظة لا تُرهقني بأسئلتي، بل تتركني أعيشها كاملة.

ك.ج 

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")