دفتر الهزيمة
هل انتهى كل شيء؟
سؤال يطاردني منذ زمن. هل وصلت إلى آخر نقطة في الكتابة، إلى حافة الورقة التي لم يعد بعدها شيء؟ هل ما تبقى في قلبي لا يكفي حتى لصياغة جملة جديدة؟ كثيراً ما خطر في بالي أنني أكتب نصاً أخيراً، نصاً يحمل آخر ما تبقى من بقاياي، نصاً يُغلق الدائرة. لكني لا أعرف، لا أستطيع أن أقرر إن كانت هذه النهاية فعلاً أم مجرد وهم صنعه التعب الذي يسكنني منذ زمن بعيد.
لقد تعبت.
أقولها بلا مواربة، بلا مجاز. تعبت من نفسي، من البحث الذي لا ينتهي عن معنى، من الكتابة التي تحولت أحياناً إلى مرآة تعكس ضعفي أكثر مما تمنحني عزاء. كم مرة قلت في تدويناتي: "تعبت"؟ ربما عشرات المرات، وربما كتبتها بطريقة غير مباشرة أكثر مما كتبتها بوضوح. كأنها لازمة تتكرر، مثل أغنية حزينة لا تنتهي، تعود في كل مقطع بوجه مختلف.
لكن التعب ليس وحده ما أعيشه. هناك شيء آخر
ينهشني من الداخل: الخوف من النهاية.
لقد بدأت الكتابة يوماً ما لأنني أردت أن أترك أثراً، لأنني أردت أن يكون لي صوت في عالم قد لا يلتفت إليّ، عالم قد لا يعرفني إلا إذا قرأ كلماتي. اخترت الكتابة لأني كنت أؤمن أنني يمكن أن أموت جسداً لكن تبقى الكلمات، يبقى الفكر، يبقى الصدى. لكن اليوم، وأنا في هذا الحال، أشعر أنني لم أعد أستحق شيئاً. أشعر أنني هُزمت.
نعم، هُزمت. نفسي هزمتني، رغباتي هزمتني، وواقعي سحقني أكثر مما كنت أتخيل. لا أخلاق أستند إليها لأواصل السير، ولا إيمان أركن إليه كي يمنحني قوة أو عزاء. لا جنّة أشتاق إليها، ولا أبدية أطمح إليها. كل ما لديّ عقل يصرخ في رأسي: هذا هو الواقع، وهذه هي الحقيقة، وهذا هو العدم. ولست أملك غير أن أواجهه، وجهاً لوجه، عارياً من أي وهم أو عزاء.
ومع ذلك…
وسط هذا الفراغ، وسط هذا الانكسار، ما زالت هناك نافذة صغيرة: الكتابة. لحظة الإمساك بالقلم، لحظة تدفق الكلمات، هي الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر أنني حيّ. قد لا تغيّر شيئاً، قد لا تُنقذني، لكنها تمنحني إحساساً أنني لم أختفِ تماماً. إنها المسافة الأخيرة بيني وبين العدم.
لقد بذلت الكثير لأجل أن أكتب. قاومت ما لا يُقاوَم، تحملت ما لا يُحتمل، ودفعت ثمناً باهظاً لأجل أن تظل الكتابة ممكنة. واليوم، وأنا أشعر أن كل شيء يتداعى من حولي، أتمسك بها أكثر. أقول لنفسي: إذا لم يبقَ لك شيء، فلتبقَ لك الكلمات. إذا خسرت كل شيء، فلا تخسر هذا الحبر الذي يروي شيئاً من حقيقتك.
لكن ماذا بعد؟
هل تكفي الكتابة؟ هل تستطيع وحدها أن تحميني من الانهيار؟ لا أدري. أحياناً أشعر أنني أكتب في فراغ، أنني أصرخ في وادٍ لا أحد يسمع صداه. أحياناً أقول: وما الفائدة؟ ما الذي سيتغير؟ لكنني أعود وأكتب، لأنني لا أعرف شيئاً آخر. لأن الكتابة ليست وسيلة بالنسبة لي، بل قدر.
لقد اخترت يوماً أن أركب على ظهر العدم، أن
أعيش بلا أوهام كبرى، بلا سند ميتافيزيقي. اخترت أن أواجه الفراغ بعقلي، أن أقول
لنفسي: لا جنة، لا خلود، لا عزاء إلا ما تصنعه يداك. واليوم أدفع الثمن.
الثمن هو هذا الخذلان، هذا الإحساس أنني مكشوف،
بلا حماية، بلا سند.
الثمن هو هذه العزلة الثقيلة التي أعيشها.
الثمن هو هذا الجرح الذي لا يندمل.
ومع ذلك، هناك بصيص صغير.
ربما النهاية التي أخافها ليست موتاً حقيقياً، بل باباً إلى بداية أخرى. ربما النص الذي أكتبه اليوم ليس وصية أخيرة، بل خطوة جديدة في طريق لم أره بعد. ربما لا أعرف معنى ما أعيشه الآن، لكن يوماً ما ستظهر قيمة هذه الكلمات، ولو بعد رحيلي.
أنا لا أملك اليقين.
لكنني أعرف شيئاً واحداً: سأظل أكتب. سأكتب حتى
لو لم يفهمني أحد. سأكتب حتى لو لم يقرأني أحد. سأكتب حتى لو كان الحبر آخر ما
يتبقى لي من دماء.
سأكتب لأن الكتابة هي الشيء الوحيد الذي جعلني
أحتمل الحياة.
سأكتب لأن الكلمات هي آخر جدار أقف عليه قبل أن
أتهاوى في العدم.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق