أزير… ما تبقى من الزمن
كان لابد أن لا أنسى تلك اللحظة، حين زارني أخي الصغير في المدينة البعيدة. بدا كأنه جاء من آخر الدنيا، من الجنوب الشرقي بكل ما فيه من جبال وأودية، إلى الشمال الذي يحتضن بحرًا لا يعرف الصحراء. طار بالطائرة، وركب القطار، وجرب كل ما هو متقدم في البلاد، وكأنه يعبر من زمن إلى زمن آخر. لم يكن اللقاء مجرد زيارة أخ لأخيه، بل كان عبورًا صامتًا لذاكرتي، وفتحًا لباب ظلّ مغلقًا طويلًا.
وحين مدّ يده من حقيبته، لم يُخرج شيئًا ثمينًا كما يتصور الناس، بل أخرج أغصانًا صغيرة يابسة خضراء. ابتسم وهو يقول: "أزير". في تلك اللحظة، لم يكن الأمر عاديًا؛ أحسست أنني أمام وطن كامل مصغر، أمام مرآة تعكس طفولتي. الرائحة التي تسللت إلى الغرفة لم تكن مجرد عبق نباتي، بل كانت نشيدًا قديمًا، ذاكرة خامدة عادت لتضيء فجأة.
أزير... ليس مجرد نبتة. هو الأرض نفسها حين تتنفس. هو طفولتي التي قضيتها بين سفوح مدرار وأي عيسى وعلي، هو الزمن الذي قضيت فيه الصيف أرعى الغنم مع أبناء عمومتي وأبناء أخوالي. نتسكع ساعات في الحقول، لا نفرق بيننا وبين الأغنام، ولا بين لعبنا والتعب. كنا أطفالًا نجرّب الخيال كما نجرّب الخوف: نبتكر قصصًا، نصدّقها، ثم نهرب منها مع الغروب. كنا نخشى الليل، نخاف من أن تُروى الخرافات بصوت مرتفع، فنحتفظ بأسرارنا ونتركها تتبخر مع الوقت. لكن ما لم يتبخر، وما لم يغادرني، هو رائحة أزير التي كانت تحوم بين السفوح، تعلن حضورها كأغنية أبدية.
أتذكر جيدًا: كنا نسير حفاة فوق الحصى الحار، نضحك من دون سبب، ونشعر أن الشمس تتآمر علينا كي نكمل اختبار الصبر. وحين نجلس لنستريح، كان الهواء المشبع برائحة أزير يمنحنا طمأنينة غامضة، كأنه يقول لنا إننا لسنا ضائعين، وإن الأرض تعرف أسماءنا واحدًا واحدًا. لم نكن نعي ذلك ونحن صغار، لكن الرائحة كانت تكتب فينا شيئًا أعمق من الذكريات: كانت تزرع فينا هوية.
واليوم، بعد سنوات طويلة، وبعد أن صرت أعيش بعيدًا بين مدن لا تشبه قريتي، أدركت أنني صرت مدمنًا على هذه الرائحة. لا أستطيع أن أكون في أي مكان من العالم من دون أن أضع في حقيبتي غرامات قليلة من أزير. أحتفظ بها كمن يحتفظ برسالة سرية، أفتحها حين يشتد عليّ الحنين، أو حين أشعر أنني أبتعد أكثر مما ينبغي. العالم كله قد يرى في هذه النبتة مجرد علاج للبرد أو بهارًا للطعام، لكن بالنسبة لي هي بوصلة وجودية، تدلني على الطريق حين تتشوش الجهات.
أزير نبتة مقاومة، تمامًا مثل أهل الجنوب الشرقي. تعيش في الصخر، تشق طريقها في أرض قاسية، وتظلّ رغم الجفاف تنشر عطرها بلا توقف. كأنها تعلن أن المقاومة ليست بالسلاح فقط، بل بالقدرة على البقاء، بالقدرة على أن تملأ الجو بالحياة حتى في أقسى الظروف. ربما لهذا كلما شممتها شعرت بالقوة، شعرت أنني ما زلت ابن تلك الأرض التي تعلّم أبناءها أن يعيشوا بكرامة رغم شح الموارد.
حين أغمض عينيّ وأستنشق أزير، يعود إليّ وجه أبي وهو يحكي عن أجدادي الذين زرعوا الأرض بأيديهم. تعود صورة أمي وهي تنشر الأغصان على السطح لتجف. تعود ضحكات أبناء عمومتي، أصوات الماعز، وقع الحجارة، وحرارة الشمس. تعود الخرافات التي كنا نرتعد منها ونضحك عليها في الوقت نفسه. تعود كلها دفعة واحدة، وتملأني باليقين أنني لست غريبًا مهما ابتعدت، أنني أملك جذورًا لا تقتلع.
إنها ليست مجرد ذاكرة؛ إنها حياة مكتوبة
برائحة. أزير، بالنسبة لي، وطن صغير أحمله في جيبي. كلما ضعفت، أفتحه. كلما نسيت،
أستنشقه. كلما حاولت الدنيا أن تذيبني في زحامها، أعود إليه. لأن فيه طفولتي،
وأرضي، وجدودي، وأصدقائي، وحياتي كلها. لأنه ببساطة أنا، أنا الذي تعلم أن يكون
صلبًا مثل صخر الجنوب، وعطرًا مثل أزير يملأ الفضاء رغم كل شيء.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق