ماذا بعد يا حكيم؟

 لقد فكّرتُ طويلاً في الرحيل… ليس لأنني أكره الحياة، بل لأنني لم أعد أعرف كيف أعيشها. كل محاولة للانطفاء لم تكن رغبةً في الموت بقدر ما كانت رغبةً في النجاة. كنت أريد أن أضع حدًّا لهذا النزيف الداخلي، أن أجرب الصمت الأخير بعد أن صار كل صمتٍ آخر مزيّفًا. 

لقد حاولتُ أن أحيا، صدّقوني حاولت. سرت في طرقٍ كثيرة، جلست في مقاهٍ مزدحمة أحاول أن أشارك الضحكات، لكن الضحك بدا بعيدًا عني. مشيت في شوارع طويلة، والمدينة حولي تعجّ بالأنوار والوجوه، لكنني كنت أشعر كغريبٍ يتسكع في مسرحٍ لم يُدعَ إليه. جلست مع أناسٍ كثيرين، تحدّثوا عن العمل والمال والمستقبل، لكنني كنت أبحث في أصواتهم عن دفءٍ فلم أجده. كل ما حولي أقنعني، بطريقة غير مباشرة، أنني لستُ هنا لأحيا، بل لأثبت لهم أنني حيٌّ فقط إذا متّ. 

أكتب الآن لأن الكتابة آخر ما تبقّى لي. أكتب كمن يحاول أن يحفر نفقًا في جدارٍ صلد بظفره. كل حرفٍ هو قطرة من قلبي. أكتب على أمل أن أقرأ نفسي غدًا وأقول: "ها قد وجدت المعنى"، لكنني غالبًا أجد نفسي في الغد أبتسم ابتسامة مُرّة وأسأل: "وماذا بعد يا حكيم؟" لقد اخترت الحكمة، لكنها صارت مرآة تعكس جهلي. اخترت الحرية، لكنني وجدت حول معصمي قيودًا من ذهب. اخترت الحب، لكنه جاءني كطعنة مغطاة بالورود.

يا حياة، أرجوك أن تنظري إليّ بصدق. لا تتركي صورتي تتكسّر أمامي كل يوم. هل أستحق هذا العذاب الذي يسري في دمي؟ هل كنتُ مذنبًا حين أحببت أكثر مما ينبغي؟ هل كنتُ ساذجًا حين منحتُ الآخرين ثقتي؟ لقد تعبت من أن أكون مرآةً لخيبات الآخرين. تعبت من القريبين الذين تركوا جرحًا أعمق من البعيدين. تعبت من الذين قالوا لي "أحبك" حين احتاجوا إليّ، ثم حين استعادوا قوتهم تركوني وقالوا: "أنت مجرد شخصٍ عابر." 

لقد خذلتني الحياة في أبسط أحلامي. كنتُ أريد فقط أن أجد يدًا تُمسك بيدي بلا مقابل، أن أعيش يومًا واحدًا بلا قناع، أن أستيقظ على صباحٍ لا يُشبه الأمس. لكنني وجدت نفسي وسط عالمٍ يقتل أي فكرة صافية قبل أن تكبر. عالمٌ يبيع الأمل في الأسواق ويقيس الكرامة بالأرقام. عالمٌ يجعل الحب صفقة، والصداقة تحالفًا مؤقتًا، والإنسان آلةً تعمل حتى تتعطّل ثم تُلقى جانبًا. 

كلما حاولت أن أقول الحقيقة، نعتوني بالجنون. ربما كنتُ كذلك. لكن أي جنونٍ هذا؟ هل الجنون أن أرفض حياةً بلا معنى؟ أم أن الجنون أن يقبل الناس أن يعيشوا كقطعانٍ بلا روح؟ أليس أشدّ جنونًا أن يبتسم الإنسان كل صباح بينما قلبه يذوب كشمعة؟ 

إنني مرهق يا حياة… مرهق من الصبر الذي صار لعنة، من الأمل الذي صار كذبة، من الصمت الذي يأكلني من الداخل. لم أطلب الكثير. أردت فقط أن أكون إنسانًا: أن أعيش بكرامة، أن أتنفّس حريةً لا تتبدّل، أن أجد حبًّا لا يخون. لكنني اكتشفت أن هذه الطلبات الصغيرة صارت أثقل من المعجزات.

أنا الآن أكتب، لا لأنني أملك الكلمات، بل لأن الكلمات تملك بقاياي. أكتب لأنني لو صمتُّ سأذوب تمامًا. أكتب لأصرخ في وجه الفراغ: "أنا هنا." ربما يظنّ الناس أنني مجنون، أو شاعر ضائع، أو كاتب يائس. لكنني في الحقيقة إنسان يحاول أن يتمسّك بخيطٍ واحد في هذا الليل الطويل.

يا حياة، إذا كنتِ تسمعينني، فأنا لم أطلب خلودًا، ولا مجدًا، ولا ثروة. طلبت فقط أن أُرى، أن يُنظر إليّ كما أنا، بلا أقنعة ولا أقوال منمّقة. طلبت أن أعود ولو لحظة واحدة إلى الطفولة التي لم تكتمل، إلى ضحكة لم تتعلّم بعد كيف تخاف، إلى قلبٍ كان يصدّق أن الغد أجمل. 

أرجوك يا حياة، لا تجعلي كلماتي مجرد صدى في هواءٍ بارد. أريد أن أصدّق أن الطريق لا ينتهي بالموت، وأنني لستُ كتابًا منسيًّا في مكتبة مليئة بالغبار، ولا ظلًا يذوب في أزقّة بلا ضوء.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")