الغريق الذي هو البحر

من سينقذني منّي؟ من يمدّ يده إلى غريقٍ صار البحر نفسه؟ لقد حملتُ منذ طفولتي شقوقًا لم يلتئم منها شيء، نشأتُ في تربةٍ لم تُسقَ إلا بالخوف، فأنبتت في داخلي أشجارًا من عقدٍ سوداء. ما كنتُ طفلًا يتعلّم كيف يكون إنسانًا، بل طفلًا يتعلّم كيف يختبئ من الحياة. ومنذ ذلك اليوم وأنا أجرّ ظلي معي أينما ذهبت، أثقله بذكريات لم أطلبها، وأحمله كأنني أحمل سجنًا متنقلًا.

هل أنا المسؤول عن أخطائي؟ أم أن أخطائي هي التي صنعتني؟ كيف يُحاكم إنسان على خياراتٍ لم يخترها قلبه بل فرضتها يد غريبة على مصيره؟ كنتُ صغيرًا لا يعرف شيئًا سوى الركض خلف فراشةٍ أو البكاء إذا سقط، فإذا بي اليوم رجلٌ يتزيّن باللحية، لكن صدره خاوٍ ككهف، وعقله متعب كطريقٍ طويل لا نهاية له، يلهث من عتابٍ لا ينتهي. 

أيها الزمن، أيها الطاغية الخفي، تسحبنا من الطفولة كما تُسحب الشجرة من جذورها، تخلعنا من براءتنا، ثم تزرعنا في أرضٍ لا نعرفها. نمضي بك من دون أن نفهم، نكبر لكننا لا نتعلم كيف نكبر. تسقط وجوهنا القديمة، فنلبس وجوهًا جديدة، لكنها تحمل الندوب ذاتها. نضحك بصوتٍ مرتجف، ونحيا بأجسادٍ متعبة، ونشيخ قبل أواننا لأننا لا نفهم ماذا نفعل في خطك الطويل. 

أنا تائه… تائه بين مَن أكون ومَن لم أعد أستطيع أن أكون. بين ما أحب وما يُفرض عليّ أن أحب. بين الغد الذي يشبه الأمس، والأمس الذي لم يغادرني. أهرب كل يوم من نفسي، لكنها تسبقني إلى فراشي، إلى مرآتي، إلى جدراني. أفتح عيني على المشهد ذاته: غرفة تتكرّر ككابوس، جدار صامت، سقف يضغط عليّ كأن السماء كلها سقطت داخله. حتى أيامي صارت وجوهًا متشابهة، لا لون لها، رمادية كليلٍ طويل لم يترك مجالًا للفجر.

لقد تعبت من الكتابة، لكن الكتابة هي الهواء الوحيد الذي ما زال يدخل صدري. أكتب لأُفرغ قلبي، فأكتشف أنني أملأه من جديد بأثقالٍ أعمق. أكتب لأداوي نفسي، فإذا بي أجرحها بسكّينٍ أخرى. الكلمات تحاصرني، تنغرس في جلدي كإبرٍ لا خلاص منها. كل سطرٍ أكتبه يعيدني إلى الجرح الأول، إلى نفس الدائرة التي لا مخرج لها.

أيها العالم، إنني أبحث عن نافذة. أبحث عن معنى للصبر الذي صار عذابي، عن حبٍ لا يُشبه الخديعة، عن سلامٍ لا يذوب مع أول دمعة. أريد أن أرى ضوءًا واحدًا يكسر هذا الليل الطويل. أن أصدق أن الألم ليس قدرًا أبديًا، وأن الإنسان ليس محكومًا بالتيه إلى الأبد.

يا مجهول، يا من أخاطبه كأنني أخاطب فراغًا، من أنت؟ أأنت الله البعيد الذي يسمعني ولا يجيب؟ أم أنت أنا الذي فقدتُه منذ زمن؟ أم أنك مجرد صدى يردّ عليّ كي لا أموت صامتًا؟ إنني لا أطلب سوى أن أرى نفسي بلا أقنعة، بلا خوف، بلا عتاب. أن ألتقي بالطفل الذي كنته، ذاك الذي كان يضحك ببراءة، قبل أن يخنقه العالم بأثقاله.

أريد أن أستريح من نفسي. أريد أن أغفر لقلبي قبل أن يذوب. أريد أن أفتح صدري للريح، أن أنام ليلة واحدة بلا كوابيس، أن أبكي دمعةً لا تجرح، أن أجد سلامًا يشبه حضنًا لم أعرفه يومًا.

ك.ج

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")