زهرة ياسمين في حديقة مكتظة
أقرب الناس إلى قلبي… قلائل.
قلائل لدرجة أنني
أستطيع أن أحصيهم كما أحصي أوراق زهرة ياسمين تفتحت هذا الصباح في شرفة قديمة.
زهرة ناعمة، لا تحمل
أكثر من بضع أوراق، لكن كل ورقة فيها حياة كاملة.
أفكر فيهم كما يفكر
البستاني في نبتة نادرة: أراقبهم، أحرص على ألا تلمسهم ريح، وأحملهم في قلبي كما
يحمل طفل لعبة خشبية صغيرة، لكنها بالنسبة له أثمن من الذهب.
لكن هؤلاء القلائل، في
حياتهم، ليسوا مثلي.
هم أشبه بحدائق عامة،
أبوابها مفتوحة، والناس يدخلون بلا استئذان.
كل يوم يلتقون وجوهًا
جديدة، يضيفون أرقامًا إلى قوائمهم، يكتبون أسماءً لا تنتهي في دفاتر صداقاتهم.
أما أنا، ففي دفتر
صداقاتي، اسم أو اثنان… وربما رسم قلب بجانب كل اسم.
أتساءل أحيانًا: كيف
أرى أنا أن هذا صديقي المقرّب، وأشعر أن غيابه فراغٌ واسع، بينما هو، إن غاب عني،
يمضي وقته مع خمسة عشر صديقًا آخر، يتقاسم معهم الضحك، وربما يتقاسم معهم أسراره
أيضًا؟
أنا إذا غاب، أجدني
أحدّث الجدار… حرفيًا.
مرة كنت جالسًا في
غرفتي، شعرت بالملل والوحدة، فالتفت للجدار وقلت له: "أتدري؟ كان يفترض أن
نتحدث اليوم أنا وهو."
الجدار لم يرد، لكنه
على الأقل لم يغيّر الموضوع أو يقطع كلامي برسالة واردة من شخص آخر.
هناك فارق بين أن تكون
"الأول في قائمة أحدهم" وبين أن تكون مجرد اسم في منتصف القائمة.
الفارق يشبه الفرق بين
وردة ياسمين موضوعة في كأس ماء صغير على طاولة، ووردة أخرى ضائعة وسط حديقة مكتظة
بالزهور، يمر الناس بجانبها دون أن ينتبهوا.
وأنا، يا سادة، أكتشف
أنني لست الكأس… أنا الحديقة الفارغة التي وضعت فيها وردة واحدة، وسافرت الروح
معها.
أحيانًا أحاول أن أرى
الأمور بمنظارهم.
ربما هو أمر طبيعي أن
يكون لكل إنسان دوائر متعددة من الأصدقاء: دائرة للعمل، دائرة للدراسة، دائرة
للهوايات، دائرة للطوارئ، ودائرة صغيرة جدًا للروح.
لكن يبدو أنني أنا
وحدي من حشر نفسه في دائرة الروح، بينما الآخر يضعني بين "أصدقاء
الهوايات" أو "المعارف اللطيفين".
إنه تصنيف قاسٍ، لكنه
لا يأتي مكتوبًا على بطاقة، بل يظهر في التفاصيل الصغيرة:
عدد الرسائل التي
تتلقاها، سرعة الرد، عدد المرات التي يبدأ هو بالمحادثة لا أنت، وكم مرة يخبرك
بخبره المهم قبل أن ينشره في حالة الواتساب.
والأدهى أن هؤلاء
القلائل الذين أقدّرهم، لديهم طاقة خارقة على جعل المرء يشعر بأنه ليس الوحيد في
حياتهم… بل ليس حتى من أوائل خمسة.
هم أبطال العالم في
توزيع الوقت، يتقنون لعبة "تعدد الوجوه" أكثر من السحرة.
معك هم أعمق الأصدقاء،
ومع غيرك هم أيضًا أعمق الأصدقاء… ومع الجميع أعمق الأصدقاء!
وحين تسأل نفسك:
"إذن من هو صديقه المقرّب فعلًا؟"
تكتشف أن الإجابة
الحقيقية هي: "الجميع… أو لا أحد".
السخرية في الأمر أنني
أظل وفيًا لدرجة السذاجة.
أجلس أكتب لهم
الرسائل، أختار الكلمات كما يختار الشاعر قافية لا يريد أن تكسر الوزن.
أحفظ تواريخهم، وأتذكر
أدق التفاصيل عنهم، حتى تلك التي نسوها هم عن أنفسهم.
بينما هم، لو طلبت
منهم أن يكتبوا لي سطرين عني، سيبدؤون بـ"هو إنسان طيب" وينتهون
بـ"يحب القهوة".
لكن، لنكن صريحين… لا
أظن أنني وحدي من يعيش هذا الموقف.
ربما كل واحد منا هو
زهرة ياسمين في قلب شخص ما، لكنه في نفس الوقت، مجرد عابر سبيل في حياة شخص آخر.
ربما العدالة الوحيدة
في العلاقات، هي أنها غير عادلة للجميع بالقدر نفسه.
ومع ذلك، سأبقى أنا
كما أنا:
أزرع وردة ياسمين في
قلبي لكل من أراه يستحق، حتى لو كان سيضعني على رف النسيان.
لأنني، ببساطة، لا
أعرف كيف أكون حديقة مزدحمة… أنا زهرة واحدة، تكفيني شمس واحدة، وقلب واحد، ولو
كان بعيدًا.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق