حين لا يملك أحد قلب أحد
الأمر في جوهره ليس معقّدًا؛ فالحب ممكن. ممكن إلى درجة أن الحياة، بكل أثقالها ونعَمها، بكل حروبها واحتفالاتها، لا تقوم إلا على هذا الاحتمال البسيط والمهيب في آن.
لكن المستحيل – أو ما يشبه المستحيل – هو أن يتحرر الإنسان كليًّا من تلك المفارقة القديمة كقِدم الوعي نفسه: مفارقة العقل والعاطفة. إننا مخلوقات تمشي على حدّ السكين، حيث يطلّ المنطق من نافذة واحدة، وتطلّ الرغبة من نافذة أخرى، ولا سبيل لإغلاق إحداهما دون أن تفسد الرؤية.
ولأنني أحب أن أختبر طرائق غير مألوفة في فهم الحب، قررت أن أتعامل معه لا كمفهوم جامد، ولا كتجربة عابرة، بل كرحلة دائمة في صحراء المعنى، أبحث فيها عن ينابيع غير مرئية. ما تعلمته حتى الآن، هو ما بدأت به: الحب ممكن. لكنه ليس طريقًا مفروشًا بالزهور كما تصوّره القصص، بل هو أشبه بممر جبليّ بين وديان مظلمة وقمم مضيئة، لا يعبره إلا من جمع في قلبه شجاعة السقوط وبهجة النهوض.
أنا هنا لا أتحدث عن الحب في صورته الضيقة بين رجل وامرأة فقط، ولا عن الشغف المؤقت تجاه فكرة أو شيء، بل عن ذلك الحضور الخفي الذي يجعل الإنسان وفيًّا لذاته. ذلك الإصرار الهادئ على أن يحيا بامتلاء، وأن لا يفرّط في المسافة التي تميّزه عن العدم. الحب، كما أراه، هو ذلك الوميض الداخلي الذي يقول لنا في كل صباح: "قُم، فما زال في العالم ما يستحق قلبك".
أما في الحب بين المرأة والرجل، فقد علّمتني كلية الحياة أن الحب بينهما ممكن جدًا، لكنه لا يزهر إلا إذا نظر كل منهما إلى الآخر كمساحة اتساع، لا كحدود ملكية. الحب الذي يتنفس يحتاج إلى سماء واسعة، لا إلى جدران الغيرة والامتلاك. يحتاج إلى أن يكون كل طرف حرًّا في أن يظل ذاته، وأن يكتشف نفسه من جديد، دون أن يُفرض عليه أن يكون مرآة صافية لتوقعات الآخر أو حلمه أو مثاله.
الحب، مهما تبدّلت الأزمنة، سيبقى ممكنًا: في المدن التي تتوهج بأضواء الحداثة، وفي القرى التي ما زالت تحصي الفصول بألوان الحقول، وفي الحقب التي لم تأتِ بعد. لكن السؤال الأعمق ليس: هل يمكن للحب أن يوجد؟ بل: أي حب نريد نحن أن نوجده؟
هل نريده معبودًا يطلب طقوس الولاء؟ أم فكرة نختبر صدقها؟ أم تحديًا نخوضه ضد أنفسنا؟ أم مرآة نرى فيها أجمل ما فينا وأقبحه؟ أم نهرًا من الطبيعة يجري بنا نحو مصير أوسع منّا؟
إن تحديد ماهية الحب ليس غاية في ذاته، بل هو تدريب على الحرية. فنّ التربية على تحرير الحق في الحب، هو في رأيي الخطوة الأولى في تاريخ الوجود نحو خلود الحب، وخلود الحياة، وربما نحو أن يصير الإنسان ذاته كائنًا خالدًا في أثره، حتى وإن فني جسده.
لعل الحب، في النهاية، ليس شيئًا نمتلكه أو نفقده، بل هو الطريق نفسه، الذي إن مشيناه بصدق، كشف لنا سرّ أن نكون أحياء حقًا.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق