ما وراء سقف السماء
منذ أن بدأ التاريخ يُسجَّل، كان هناك صوتان يتنازعان روح الإنسان: صوت يدعوه إلى الاكتشاف، وصوت يدعوه إلى الركوع. الأول همس له: "العالم واسع، والأسرار أكثر من أن تُعدّ، سر خلف الجبال، وانظر وراء البحار، اكتب ما لم يُكتب، وجرّب ما لم يُجرَّب". والثاني صاح فيه: "ابقَ حيث أنت، فالمعنى قد وُضع، والنهاية معروفة، وأنت لست هنا إلا لتطيع".
ومع الزمن، كسب الصوت الثاني معركة الهيمنة.
ليس لأنه أقوى بالمنطق، بل لأنه أتقن صناعة الخوف. الخوف من المجهول، الخوف من
الخطأ، الخوف من أن تُعاقب على تجاوز الحدود المرسومة. وهكذا، تسللت الأديان إلى
عمق البنية النفسية للإنسان، حتى لم تعد مجرد منظومة طقوس أو قوانين، بل أصبحت
شكلًا من أشكال البرمجة العقلية، تعليمًا مبكرًا على الطاعة، يُزرع في الطفل قبل
أن يعرف كيف يسأل.
في هذه البرمجة، هناك فكرة مركزية واحدة، مهما
تنوعت لغات الكتب وأسماء الآلهة: أنت موجود لتعبد. هذه الجملة، في ظاهرها، تحمل
دفئًا روحانيًا، لكن في باطنها تحمل حصرًا لوجودك في دائرة واحدة، تجعل كل ما
تفعله من علم وفن وحبّ وصراع، وسيلة لتعظيم سلطة عليا، لا لتكبير ذاتك ولا لتوسيع
حدودك. حتى حين يُسمح لك بالإبداع، فهو إبداع مُؤطَّر، مراقَب، كأنك ترسم لوحة في
دفتر أحدهم، وعليك أن تتأكد أن ألوانك لن تخرج عن الإطار.
هكذا، تحوّل الله من أفق مفتوح على اللانهائي
إلى سقف منخفض يحدّ رأسك، وتحولت السماء من دعوة للطيران إلى أوامر بالبقاء في
السرب. ومن هنا، بدأت مأساة الإنسان: أن يقيس قيمته بمدى طاعته، لا بمدى قدرته على
الخلق.
لكن، ماذا لو رفضنا هذه المعادلة من أساسها؟
ماذا لو قلنا إن الإنسان لا يولد وفي جيبه تذكرة باتجاه واحد نحو محراب العبادة،
بل يولد ومعه أدوات النحت والكتابة والهدم والبناء؟ ماذا لو أن الكون نفسه بلا
مخطط مسبق، وأن الخالق، إن وُجد/ لم يكتب قصة مكتملة، بل ترك المسرح فارغًا لنكتب
نحن النص؟
التاريخ يهمس لنا أن كل خطوة إلى الأمام جاءت
من كسر نصّ سابق. من فيثاغورس إلى داروين، من سقراط إلى نيتشه، من دافنشي إلى
بيكاسو، من ماري كوري إلى ستيف جوبز، كلهم، بشكل أو بآخر، عصوا الفكرة الجاهزة،
رفضوا أن يكونوا مجرّد نُسخ مطابقة لسلفهم. لكن الدين، كأية سلطة أخرى، لم يرحّب
بهذا العصيان إلا إذا استطاع ترويضه؛ يعيد تفسيره، يدمجه، يفرغه من روحه الثائرة،
حتى يصبح غير مُهدِّد.
إن أخطر ما في البنية الدينية التقليدية ليس
أنها تضع لك إجابات، بل أنها تُصمم الأسئلة نفسها، وتُبقيك تدور في دائرتها. حتى
أسئلتك الوجودية تُختزل إلى صيغة مقبولة: لماذا أنا هنا؟ لتعبد. ما معنى الحياة؟
الامتحان. ما بعد الموت؟ الحساب. كل شيء مُختزل، مغلق، مبرمج ليعيدك إلى النقطة
نفسها، كدائرة لا باب لها.
تحرير العقل لا يعني الخروج من الدين إلى فراغ،
بل الخروج من دائرة مغلقة إلى أفق بلا نهاية. أن تعيد لنفسك حق السؤال المفتوح،
السؤال الذي لا يخشى أن يصطدم بالمحظور. أن تعترف أن المعنى، لو كان مُكتملًا من
البداية، لكان وجودك نفسه بلا جدوى؛ وأن قيمتك لا تأتي من كونك "عبدًا
صالحًا" بل من كونك صانعًا للحظة وعيك.
حين تدرك ذلك، ستبدأ في رؤية نفسك لا كرسمة
صغيرة في لوحة أحدهم، بل كيد تمسك الفرشاة، تضيف ضربتك الخاصة، حتى لو بدت غريبة
أو ناقصة أو فوضوية. وحين تلتفت، ستجد أن اللوحة الكبرى لم تكن مكتملة من دونك،
وأن الكون لم يكن مجرد مسرح جاهز، بل كان ينتظر ممثلين جريئين يغيّرون النص أثناء
العرض.
الحرية الحقيقية ليست أن تختار بين طاعة وأخرى،
بل أن تصنع خياراتك من الصفر. العبادة الحقيقية ليست في الركوع أمام قوة غيبية، بل
في الانحناء أمام عظمة العقل الذي يرفض أن يتوقف عن الحلم. والخلود الحقيقي ليس في
وعد حياة أخرى، بل في أن تترك أثرًا في هذه الحياة، أثرًا لا يمكن محوه حتى لو
انهار كل ما نعرفه.
وحين تصل إلى تلك المرحلة، حتى لو آمنت بوجود
خالق، ستقف أمامه واقفًا، عينيك في عينيه، وتقول بهدوء: "لقد صنعتُ أنا أيضًا
عوالمي، فماذا بعد؟"
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق