القوة في أن تُرى كما أنت
في هذا العالم المتكاثر بالستائر والجدران، يتعلم الإنسان منذ طفولته أن يخبئ وجهه الحقيقي. ينمو وهو يحمل حقيبة أسرار، يتعثر بها في طرق الحياة، ويظن أن قيمته مرهونة بما لا يراه الآخرون منه. لكنه ينسى أن سرّه ليس سوى ظلٍّ ملقى على جدار هش، وأن قوته الحقيقية ليست في ما يخفي، بل فيما يعلن.
لقد قيل لنا إن
الخصوصية هي الحصن الأخير للحرية. لكنني أرى العكس: إن الخوف من انكشافنا هو
عبودية صامتة، تجعلنا أسرى لذواتنا قبل أن نُستعبد من الآخرين. فما الحرية إن لم
تكن أن تقف أمام العالم عاريًا من الأقنعة، وتقول: هذا أنا، بكل ضعفي وقوتي، بكل
هزائمي وأحلامي؟
إننا نخاف أن يُعرف
عنا ما نخبئ، لأننا لا نصالح أنفسنا مع ما نخفي. نمارس أفعالًا لا نرضاها، فنرتعب
من لحظة انكشافها. لكن لو أحببنا أنفسنا كما هي، وأصلحنا ما نخجل منه، أما كنا
نغدو كالأشجار؟ تلك التي لا تخفي عن جاراتها أوراقها الذابلة، ولا تخجل من فروعها
العارية في الشتاء؟ أما كنا نغدو كالطيور، تغني على مرأى من كل عين، ولا تخاف أن
يُعرف سرّ صوتها؟
أيها الإنسان، لِمَ
تظن أن ستر حقيقتك يحميك؟ لِمَ تعتقد أن الأسرار درع من الفولاذ؟ إنما هي قيود من
دخان. أنظر حولك: العالم الشفاف عالم أقوى، والمجتمعات التي تنبني على الصراحة
أنقى وأرسخ. فما قيمة الثقة بين الناس إذا كانت تقوم على الشك والخوف؟ أليس أجمل
أن نحيا في وضوح، فنرى بعضنا بلا أقنعة، ونتعامل بصدق لا يخذل؟
ولِمَ نخشى أن ترى
الأنظمة ما نفعل؟ لِمَ نرتعب من عين الرقيب؟ إن الحرية ليست أن نخفي أفعالنا عن
السلطة، بل أن تكون أفعالنا صافية، لا نخجل منها إن رآها كل سلطان. الحرية أن يكون
قلبك كتابًا مفتوحًا، لا تُخيفك أعين القراء، لأنك لم تكتب فيه إلا ما ترضى.
إنني أرى الخصوصية
خرافة صنعها الإنسان ليبرّر خوفه من ذاته. صنعها لأنه لم يتعلم بعد أن يكون صادقًا
مع نفسه ومع الآخرين. فالحرية الحقيقية ليست أن تخفي، بل أن تُظهر بلا وجل. ليست
أن تحمي نفسك من معرفة الآخرين، بل أن تحيا بصدق يجعلك لا تحتاج إلى حماية.
أترى، الأشجار لا
تُخفي، والأنهار لا تُخفي، والنجوم لا تُخفي. وحده الإنسان اخترع السرّ، وصار
أسيرًا له. فليكن العالم إذن مرآة مفتوحة، ولتكن حياتنا أغنية مسموعة. وحينذاك
فقط، سنعرف معنى الطمأنينة: أن نُرى كما نحن، وأن نحب أن نُرى.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق