شرود و قطرات دم

 على المطبخ، كانت الساعة تجاري وقت ما بعد الظهيرة، والشمس التي دخلت من النافذة تمددت في الغرفة، كأنها تريد أن تدفئها قبل أن تغادر.... القدر على النار كان يطلق بخارًا يتراقص، ورائحة البهارات بدأت تملأ الجو، تختلط برائحة الخضار الطازجة.... كنت أقف هناك، السكين في يدي، أقطع طرائف من الجزر والبطاطس والبصل، وأحيانًا أضع قطعة من الدجاج جانبًا، كمن يرتب لوحة ملونة أكثر من كونه يجهز وجبة.

كنت أتمتم مع نفسي بصوت خافت، كأنني أخاطب صديقًا غير موجود. أفكاري تتنقل بخفة بين المطبخ وقاعة امتحان السياقة حيث تجلس أختي الآن. كنت أراها في خيالي تضع يديها على المقود، تحاول إخفاء توترها بابتسامة صغيرة. جزء مني كان يفرح لفكرة نجاحها، وجزء آخر كان يخشى أن تعود بخيبة. الخوف لم يكن عليها فقط… بل كان خوفًا قديمًا يخصني، خوفًا من تلك اللحظة التي عشتها أنا حين فشلت، حين شعرت أن العالم ضاق فجأة وأغلق عليّ بابه.

بينما كنت غارقًا في هذه الصور، كانت السكينة تتحرك بين أصابعي والخضار، تتبع إيقاعًا ثابتًا. وفجأة، وكأنها قررت أن تنبهني من شرودي، انزلقت وضربت إصبعي. شعرت بوخزة حادة، ثم بحرارة دافئة تسيل على جلدي. الدم بدأ يتجمع على طرف الإصبع قبل أن يسقط قطرة بعد قطرة على لوح التقطيع، ثم على الأرض. للحظة، كل شيء توقف… حتى البخار بدا وكأنه تجمد في الهواء.

استفقت من شرودي، ألقيت السكين على الطاولة، وأسرعت أبحث عن منديل. فتحت صيدلية البيت الصغيرة، يدي اليسرى ترفع الغطاء ويدي اليمنى تنزف. وجدت القطن والدواء، ومسحت الجرح، أحسست بحرقة صغيرة، ثم وضعت لصقة طبية بإحكام.

التفت بعدها إلى المطبخ، ورأيت المشهد كما لو أن شخصًا آخر تركه: قطرات دم متناثرة في جوانب الغرفة، لوح التقطيع ملطخ، ووعاء الخضار كذلك... شعرت بشيء من الانزعاج، فأحضرت ماء الورد ورششته على الأرض، ليس فقط لتنظيفها، بل لأن رائحته أعادت لي بعض الهدوء. بدأت أمسح وأجفف، حتى عادت الأرض لامعة كما كانت، وعاد المطبخ مرتبًا، كأن شيئًا لم يحدث.

ابتسمت بسخرية وقلت لنفسي: "هاه… كأن شيئًا لم يكن، أيها الشارد، ماذا علمتك السكين اليوم؟"

أجبت بخجل: "علمتني أنني ما زلت لا أقدر على مراوغة نفسي أو السيطرة على هواجسي."

ضحكت، وأضفت: "أجل… هذا مشكل الجميع، أليست هذه طبيعة الإنسان؟"

مددت يدي إلى الهاتف، لم يكن في بالي سوى أن أسمع صوت أختي. ربما تقول لي "نجحت" فينتعش قلبي، أو تقول "لم أنجح" فأبتلع الصمت معها. لكن في كل الأحوال… كان عليّ أن أتصل.

ك.ج 


تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")