طفل العالم

 لطالما تساءلت عن المغزى الحقيقي من تنشئة الأطفال، وسؤال من هذا النوع ليس بالهيّن، خاصة حين يتداخل فيه ما هو شخصي بما هو معرفي، وما هو عاطفي بما هو فلسفي.

وقد يبدو غريبًا أن أطرح هذا التساؤل رغم دراستي لعلوم التربية، وتخصصي فيها، وممارستي المتواضعة في مجال التعلم والتكوين. لكن، وعلى عكس ما يُفترض، لم تقُدني كل تلك القراءات والممارسات إلى جواب نهائي. بل قادتني إلى مزيد من الشك، ومزيد من الرغبة في تفكيك المعطى التربوي نفسه، في عمقه ومغزاه.

لطالما شعرت أن التنشئة الاجتماعية، كما تُمارَس في أغلب المجتمعات، لا تنبع من حبّ الطفل بل من الخوف عليه؛ ولا تُبنى على احترام إنسانيته بل على رغبة دفينة في تشكيله كما نريد نحن، كما يتوقع المجتمع، كما يفرض الدين، كما تملي الأعراف، كما تقتضي "النجاعة الاقتصادية".

ويبدو أن المنظور السوسيولوجي، بقدر ما كان مفيدًا في تفكيك آليات التنشئة، إلا أنه بقي حبيسًا في إطار إعادة الإنتاج الثقافي: أي أن التربية ليست سوى وسيلة لنقل ثقافة الجماعة للأجيال الصاعدة، لضمان استمراريتها.

لكن أليس في هذا المعطى خطر كبير؟  أليس في ذلك تسليعًا للطفل، وتشييئًا له، واختزالاً لكيانه في وظيفة؟ أي وظيفة الاستمرار في تمثيل المجتمع دون مساءلته.

التنشئة، كما تُمارس عادة، لا تمنح الطفل حق الشك، ولا فضاء التساؤل، ولا جرأة إعادة النظر. فهي تنشئة تغلّف الثقافة بقداسة، وتمنحها حصانة لا تستحقها بالضرورة، وتُجبر الطفل على استبطانها دون أن يعيها.

وبهذا المعنى، فإن ما نُطلق عليه تربية، لا يعدو أن يكون تعليبًا خفيًا للذات في قوالب معدّة سلفًا، تُعيد إنتاج الإنسان المتصالح مع الوضع القائم، حتى وإن كان وضعًا مأزوما.

وقد أقول، بشيء من الحذر، إننا في المجتمعات المغاربية، وسأخص بالذكر المغرب، نربي أطفالنا وفق ثلاثية تكاد تكون غير قابلة للنقاش:

1.  الدين بوصفه مرجعية أخلاقية مطلقة.

2.  الوطن بوصفه هوية مُنجزة ومفروضة.

3. الاقتصاد بوصفه هدفًا حياتيًا يختزل معنى النجاح في الاستهلاك والشغل والمردودية.

وهذه الثلاثية، رغم ظاهرها النبيل، تُبقي التربية أسيرة ثوابت لا تُطرح للنقاش، مما يجعلها تربية منغلقة، تُعيد إنتاج الولاء والانضباط بدل إنتاج المعنى والوعي.

لكن هل نربي فقط ليُصبح الطفل “مشروع بالغ صالح”؟ هل الغاية من التربية هي فقط تهيئته ليحمل القيم السائدة ويعيد تمثيلها بامتثال؟ أم أن هناك إمكانًا آخر، تربية من نوع آخر، أكثر شجاعة وأكثر التزامًا بالإنسان في جوهره؟ أعتقد أن علينا، وبإلحاح، إعادة التفكير في مفهوم التنشئة برمته.

نحتاج إلى تربية جديدة، تخرج من عباءة التلقين، وتتجاوز منطق السلطة، وتعيد الإنسان/الطفل إلى مركز الاهتمام، لا بوصفه حاملاً لقيم، بل كائناً متسائلاً، مُبدعًا، مُتفاعلاً، مشاركًا في صنع واقعه.

مداخل أولي نحو نظرية تربية بديلة

لن أقدم “نظرية مكتملة” هنا، لأنني لا أؤمن بالنظريات المكتملة أصلاً. لكنني أؤمن بالبذور، بالأسئلة الأولى، بالتموضع النقدي، بالاحتمالات الممكنة التي يمكن أن تتطور.

وفي ما يلي، أطرح بعض المداخل التي يمكن أن تكون أرضية لتربية إنسانية جديدة، صالحة في كل الثقافات:

الطفل ليس صفحة بيضاء، ولا كائنًا ناقصًا.

بل هو حامل لطاقات، لحس جمالي، لفكر في طور التشكل، لا يجب إهماله أو إسكاته.

الشك فضيلة تربوية.

التربية الحقيقية لا تغرس اليقين بل تُدرّب على الشك، على المساءلة، على التفكير النقدي، لا كترف معرفي، بل كحاجة للعيش بوعي.

القيم لا تُورّث، بل تُبنى.

العدالة، الحرية، المساواة، التعاطف... لا معنى لها إن لم تُعاش، إن لم تُجرب، إن لم يُعد اكتشافها من خلال الحياة نفسها.

اللغة مهمة، ولكن الصمت التربوي مهم أيضًا.

أن نمنح الطفل فسحة للسكوت، للتأمل، لابتكار لغته الخاصة. أن لا نُغرقه بالكلمات، بل نرافقه بالصبر.

التربية ليست وظيفة، بل علاقة.

العلاقة بين المُربي والطفل يجب أن تتأسس على الاحترام، على الإصغاء المتبادل، على التشارك، لا على التحكم والمراقبة.

الفن والفلسفة في قلب التربية.

ما يحرر الطفل هو الخيال والتفكير. الفن يعلّمه التعبير، والفلسفة تدرّبه على طرح الأسئلة، لا حفظ الأجوبة.

العالم ليس عدوا.

علينا أن نفتح الطفل على العالم لا أن نخيفه منه. أن نربيه على الكونية لا على الانغلاق. أن نعلّمه أن الهويات يمكن أن تتعايش، لا أن تتصارع.

ما الذي يمكن فعله؟

أن تتحول المدارس إلى فضاءات لاجتماع المعنى، لا لمراكمة المعلومات.

المدرسة ليست بنكًا معرفيًا، وليست مصلحة لتسجيل المعارف وضخها في رؤوس التلاميذ. المدرسة التي نحتاجها هي تلك التي تُعلّم الطفل كيف يُنظّم علاقته بالمعنى، كيف يسأل لا فقط ماذا أتعلم؟ بل لماذا؟ ولأجل من؟ وفي أي سياق؟

إنها الفضاء الذي يُمارس فيه التلميذ اكتشافًا حقيقيًا للعالم، لا مجرد إعادة إنتاج لمعارف مُعلّبة. حين تصبح المدرسة مرادفًا للسياق، للارتباط بالحياة، للبحث عن الذات وسط التعلم، فإنها تتحول من مؤسسة جامدة إلى تجربة حية، من مخزن للمعرفة إلى مختبر للمعنى.

ففي نهاية الأمر، ما الجدوى من حشو التلميذ بالمعطيات إن لم يستطع أن يربطها بواقعه، أو يحوّلها إلى أدوات لفهم نفسه والعالم؟ ما نريده هو أن يشعر الطفل أن ما يتلقاه له صلة بحياته اليومية، بألمه، بحلمه، بفضوله، بأنفاسه.

أن نُخرِج الأسرة من دور الوصيّ إلى دور المرافق والمُصغي.

الأسرة، في تصورنا التقليدي، هي سلطة تأسيسية تُقوِّم وتوجّه وتأمر وتُراقب، وغالبًا ما تكون مسكونة بهاجس الخوف: الخوف على الطفل، من العالم، من الانحراف، من الفشل... فتتحول التربية إلى حماية مفرطة أو تحكم دائم.

لكن التربية الناضجة لا تحتاج إلى وصاية، بل إلى مرافقة، والمرافقة لا تعني ترك الحبل على الغارب، بل تعني احترام المسافة التي ينمو فيها الطفل، والقدرة على الإصغاء إليه، حتى حين لا يعبّر بالكلام.

الطفل لا يحتاج إلى يد تمسكه من عنقه، بل إلى عينٍ تثق به. أن نرافقه يعني أن نعيش معه، لا فوقه. أن نؤمن أن تربيته لا تمر عبر فرض القيم، بل عبر مشاركته في بناءها، عبر اقتراح، تساؤل، تفاهم، إصغاء.

المربي الحقيقي، في الأسرة، ليس من يفرض نموذجه، بل من يترك للطفل حرية النمو في اتجاهه، مع البقاء قربه حين يحتاج دعمًا أو توجيهًا.

أن ندرّب المدرّسين على "التواضع المعرفي" بدل سلطوية التلقين.

المُدرّس ليس أداة لإلقاء الدروس، ولا حارسًا على أبواب الحقيقة. التواضع المعرفي لا يعني جهلًا، بل يعني وعيًا بأن المعرفة عملية مستمرة، مفتوحة، تتغير بتغير الزمان والسياق، وأن لا أحد يملك الحقيقة بشكل نهائي.

حين يعتقد المربي أنه “يعرف كل شيء”، يتحول إلى سلطة لا تقبل الحوار، ويحوّل المتعلم إلى كائن مُستهلك للمعرفة، لا صانع لها. أما حين يتموضع المدرس في موقع “المرافق المفكر”، يصبح التعليم فعلاً حيًّا، تفاعليًا، تتشكل فيه المعرفة بالمشاركة.

في هذا الإطار، على المدرسين أن يُعيدوا النظر في علاقتهم بالكُتب، بالبرامج، وحتى بالتلاميذ. فكل لقاء داخل القسم يمكن أن يكون لحظة اكتشاف مشترك، لا مجرد إعادة إنتاج لدرس محفوظ سلفًا. إن التواضع المعرفي يجعل من المربي نفسه كائنًا متعلمًا، متسائلًا، يعترف بجهله حين يلزم، ولا يرى في ذلك تهديدًا، بل فضيلة.

أن نُعلي من قيمة الحوار، المشروع، اللعب، التخييل، كوسائل تربوية.

المدرسة ليست مكانًا للجدية الصارمة فقط، بل يمكن، ويجب، أن تكون مسرحًا للخيال، للحوار، للّعب، لأن كل هذه العناصر ليست هامشية، بل جوهرية في العملية التربوية.

الحوار يُعلّم الطفل الإصغاء، التعبير، تنظيم الأفكار، تقبّل الآخر، بناء الحجج. اللعب يُعلّمه التفاعل، التفاوض، الحلم، وابتكار الحلول. المشروع يربط التعلم بالحياة الواقعية، ويمنحه أفقًا تطبيقيًا يتجاوز “العلامة” ويمتد إلى المجتمع.

التخييل يُحرّك إمكانات الطفل الجمالية والرمزية، ويُساعده على بناء علاقة غير مباشرة مع الواقع، تُمرِّن حسه النقدي والإبداعي.

حين تدمج المدرسة هذه الأدوات في ممارستها اليومية، تُعيد للطفل جسده، وصوته، وصورته الداخلية، وتحرره من جفاف المناهج.

أن نعيد التفكير في الزمن المدرسي، بحيث لا يكون سباقًا، بل مسارًا.

الزمن كما يُنظَّم اليوم داخل المؤسسات التعليمية، هو زمن خارجي، إداري، تقني، ساعات محددة، إيقاع واحد، تقييم في تواريخ ثابتة، ضغط دائم على المردودية. لكن ماذا عن الزمن الداخلي للتلميذ؟

لكل طفل توقيته الخاص في الفهم، في التعبير، في الاستيعاب. بعض الأطفال يحتاجون وقتًا أطول للصمت قبل الكلام، آخرون لا يتعلمون تحت الضغط بل عبر التكرار البطيء.... التربية الحقيقية هي التي تحترم إيقاع كل فرد، ولا تقيس الجميع بمسطرة واحدة.

الزمن التربوي ليس خطًا مستقيمًا، بل هو تعرج، توقف، إعادة نظر. علينا أن نُخرِج الطفل من منطق "اللحاق بالركب" إلى منطق "السير في مساره"، مهما كان مختلفًا، ما دام أصيلًا فيه.

أن نمنح للطفل الحق في أن يقول “لا” دون أن نخاف من فقد السيطرة.

واحدة من أكبر المفارقات في التربية: أننا نُعلّم الطفل أن يكون مسؤولًا، لكننا لا نسمح له برفض شيء. نُطالبه بالاستقلالية، لكننا لا نطيق اعتراضه. أن يقول الطفل "لا" هو بداية تشكّل وعيه الأخلاقي، هويته، منطقه الخاص.

أن يقول "لا" لا يعني التمرد لأجل التمرد، بل هو في أحيان كثيرة دعوة للنقاش، للتفاوض، للإصغاء. علينا أن نُدرّب أنفسنا كمربين على الإصغاء لهذا الرفض، لا على قمعه. فـ "لا" الطفل اليوم، قد تكون “نعم” لحريته، لحياته، لصوته الداخلي. حين نُخيف الطفل من قول "لا"، نُدرّبه دون وعي على الخضوع. لكن حين نُربيه على أن يكون مسؤولًا عن رفضه، نُهيئه ليكون فاعلًا في العالم، لا تابعًا له.

كلمات أخيرة

ربما علينا أن نكف عن تربية الأطفال كما لو أنهم استمرار لنا. هم ليسوا "نسخًا" تنتظر التفعيل، بل أفقٌ جديد، حياة أخرى، احتمالات لا تشبهنا.

التربية الحقّة، في نظري، ليست أن نُعِدّ الطفل ليكون "مثلنا"، بل أن نُجهّزه ليكون نفسه، بوعيه، بحريته، بقلقه، بحلمه. إنني أكتب هذه التأملات لا من أجل تقديم حل جاهز، بل من أجل فتح باب الحوار، مع كل من يؤمن أن الطفل يستحق أكثر من الخضوع، أكثر من الطاعة، مع كل من لا يرضى أن نرث العالم ثم نورثه كما هو، مع من يرى أن التربية ليست صناعة أجيال، بل صناعة معنى.

ك.ج 

تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")