تأملات في معنى الكتابة (قراءة في كتاب: ما الأدب؟ لسارتر)
وأنا أتصفّح بهدوء مختلف الفصول من كتاب سارتر: ما الأدب؟، لم أستطع تأجيل فكرة أن أكتب كلّ ما تبادر إلى ذهني، خصوصًا أنني، أنا أيضًا، في سُكوتي وانعزالي، أندهش كثيرًا من هذه القضية: أنني، كلّ يوم، أكتب...
![]() |
جون بول سارتر، Google images |
ولأبدأ بالفكرة الأساسية التي ربما تُلخّص فكرة الكتاب ككل، وهي: كلّ كلمةٍ مسؤولية، والكتابةُ خيارٌ أخلاقي.
فهكذا يُعلن جان بول سارتر، بوضوح القلق الوجودي، في كتابه ما الأدب؟، أن الكاتب لا يكتب ليتأمّل، بل ليُحرّض؛ لا ليحلم، بل ليحطّم الحُجب.
لكن، أيُّ حجابٍ هذا الذي يُراد له أن ينزاح؟ وأيُّ التزامٍ هذا الذي يُلقى على كاهل اللغة، كما يُلقى الحجر في بئرٍ لا قرار لها؟
لن يكون هذا النص دفاعًا عن الحياد، ولا تبريرًا للجمالية، بل محاولة لفهم الكتابة باعتبارها هشاشةً مشعّة، لا أداة نضالٍ صلبة، وانفتاحًا شعوريًّا على العالم، لا مجرّد فعلٍ سياسي.
![]() |
Qu’est-ce que la littérature ? Jean-Paul Sartre — images Google |
أولاً: الالتزام بين النية والسلطة
ما يقترحه سارتر، ببراعةٍ لا تُنكَر، هو إعادة الاعتبار للكاتب كفاعلٍ في التاريخ. فلا كتابةَ دون موقف، ولا كلمةَ دون أثر.
لكنّ هذه الرؤية، وإن بدت نبيلة، فإنها تختزل الأدب إلى وسيلة مشروطة، وتحكم عليه بأن يكون فعلًا مشدودًا إلى خارجه.
فهل على الشاعر أن يكون مصلحًا؟ وهل الرواية تُفقد شرعيّتها إن لم تُنادِ بتحرّرٍ ما، أو تفضح قهرًا ما؟
إنّ جعل الكتابة مرتبطة فقط بالفعل التاريخي والسياسي يُغلِق أبوابًا كثيرة من التجربة:
القصيدة التي ترتجف ولا تصرخ،
النصّ الذي يتلمّس ولا يصفع،
والعبارة التي تهمس للروح دون أن تخطب للجماهير.
ثانياً: في الدفاع عن الهشاشة كوظيفة جمالية
ما أخشاه في أدب سارتر أنه يُطالِب الكاتب بأن يكون بمثابة مقاتلٍ على جبهة المعنى، لا كائنًا يسير حافيًا في حديقة الأسئلة.
إنّ الكتابة، في نظري، ليست فقط موقفًا من العالم، بل ارتباكٌ داخليّ حيال الوجود. الكتابة قد تكون سيرة شعور، لا بيانَ موقف، وقد تكون مرآةً تتشظّى، لا عدسةً توضّح.
في هذا السياق، أقترح بديلًا أو توسيعًا لمفهوم الالتزام كما جاء في الكتاب، أو كما يظهر في الفن عمومًا:
الالتزام لا يعني الصراخ من أجل العدالة فحسب،
بل أن تكتب بحساسيةٍ تمنح الآخر صوتًا، حتى وإن لم تفهمه،
وأن تعترف بالعجز كجزءٍ من الحقيقة.
ثالثاً: القارئ بين الفعل والتأثر
يمنح سارتر القارئ دورًا فعّالًا: هو من يُفعّل النص، من يُحييه ويُخرجه من الجمود إلى الفعل، من يجعل الكلمات تتجاوز صمتها لتصير أثرًا في العالم.
وهنا، لا يسعني إلا أن أتفق معه، من حيث المبدأ. فالكتابة فعل ناقص دون قارئ، تمامًا كما أن الرسالة المجهولة لا تكتمل دون عيون تقرؤها.
لكن، هل القارئ دائمًا فاعل؟ أليس في القراءة أيضًا خضوعٌ ما، انخطافٌ، انكسارٌ، وربما تواطؤٌ صامت مع الغموض؟
القراءة ليست دائمًا نشاطًا تحليليًا أو عقلانيًا، بل قد تكون، في لحظاتٍ كثيرة، هروبًا، نداءً خفيًا، عودةً إلى جرح قديم، أو نجاةً مؤقتة من العالم.
في هذا المعنى، لا يعود القارئ ذاك الكائن الذي "يفعّل" النص فحسب، بل يصبح هو نفسه مُفعّلًا، يتلقى الكلمة لا كمعلومة، بل كاهتزاز داخلي، كندبة تتفتح.
القارئ، كما أراه، ليس ماكينة تأويليّة، ولا مجرد ذهن يُنتج المعاني ويعيد تركيب الخطابات.
إنه كائن هشّ، مركّب، زئبقيّ، يحمل جراحه إلى الصفحات، يسير بها على سطور الرواية، يختبئ أحيانًا بين الجُمل كي لا يُرى، ويُسقِط من ذاته ما لا تقوله النصوص صراحة، لكنه موجود فيها، بين الفراغات، في الصمت، في الإيقاع.
أنا أريد قارئًا يتنهّد، يبكي، يرتبك، يتلعثم داخليًا، قارئًا لا يخجل من أن يُصاب بالارتباك أمام استعارة، أو أن يتعلّق بصورة لا يعرف لماذا تؤلمه. قارئًا لا يطلب المعنى، بل يجاوره، يحنّ إليه، وربما لا يجده أبدًا.
القراءة، بهذا المعنى، ليست "تفعيلاً للنص" بل علاقة وجدانية مع اللغة، علاقة جسدية أحيانًا، قَلِقة دائمًا.
القارئ المرتبك ليس أقلّ شأنًا من القارئ التحليلي، بل هو الذي يعيد للغة حقّها في أن تكون لغزًا لا أداة، ارتباكًا لا مرآة صافية.
ربما نحتاج أن نحتفي بهذا القارئ الذي لا يطالب النص بأن يكون واضحًا أو نافعًا، بل فقط أن يكون حيًّا، أن يهزّه، أن يُربكه قليلًا… أو كثيرًا.
خاتمة: الأدب بوصفه أثرًا لا أداة
في النهاية، وبعد كلّ هذه النقاط التي حاولت أن أشرحها وأنتقدها بناءً على تجربتي، أحب أن أُهدي ما بعد وجودية سارتر في الأدب، وأقترح ما سأُسمّيه: لا نفياً للأدب الملتزم، بل دعوة لاعتبار أشكال أخرى من الالتزام، منها:
- الالتزام بالحساسية: أن تكتب عن الضعفاء لا بصفتك محامياً، بل شقيقاً في الألم.
- الالتزام بالتساؤل: أن تترك الباب مواربًا للاحتمال، لا أن تُقرّر المعنى.
- الالتزام بالصمت أحيانًا: أن تُمسك اللغة عند الحدّ، لأن الصمت أيضًا كلام.
ففي النهاية، ليس الأدب بيانًا سياسيًا، ولا فقط مرآة للمجتمع، بل قد يكون نغمة في لحظة توتر، رائحة قديمة تتسلّل من سطر، أو حتى سؤالًا يتكرّر دون جواب.
أعترف أن سارتر أعاد الاعتبار لأهمية الكلمة، وهذا ما لا يُنكَر، لكننا اليوم بحاجة إلى أدب يُنقذنا من صخب العالم، لا أن يصرخ فيه، أدبٍ يمنحنا الحقّ في الارتباك، في الصمت، في الغموض. ربما كان الأدب في جوهره، لا التزامًا ولا ترفًا، بل رغبة دائمة في لمس الآخر... دون أن نؤذيه.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق