تأملات في دهشة لا تنتهي
لطالما اندهشت من عاداتي. هذا الاندهاش ليس مجرد لحظة عابرة، بل هو شعور يتجدد كل يوم، كما لو أنني أتعرف إلى نفسي لأول مرة. وكي أشرح لك الأمر، دعني أدعوك إلى بيتي، نعم، بيتي الذي يقع في زاوية ما من المغرب. حين تدخل، لن تواجهك مظاهر الحياة المنزلية التقليدية: لا غرفة جلوس فخمة، لا طاولة عشاء مزخرفة، لا خزانة تفيض بالملابس. بل ستجد شيئًا آخر تمامًا.
ما ستراه هو مطبخ أنيق وبسيط، أريكة مريحة، وسرير متحرك، ثم بعد ذلك، يختفي كل ما هو "عادي". على الجدران: لوحات، بعضها مكتمل، وبعضها نصف ملامح، كأنها تنتظر لحظة إلهام. في الزوايا: فرشاة رسم، قيثارة ساكنة كأنها تصغي، أكوام من الكتب والمجلات. عناوين "الإيكونوميست" تتزاحم مع دواوين شعر وكراريس قديمة. وكأنك لست في بيت، بل في كشك صغير، أو متحف شخصي، أو ربما في مرسم مهجور يضجّ بالحياة رغم سكونه.
ومنذ طفولتي، تعلمت عيناي أن تريا العالم بطريقة مختلفة. كنت أفتش في الأشياء عن روحها، لا عن وظيفتها. في سن الثلاثين، لا زلت أمسك بيد الطفل الذي يسكنني. لم يملّ من متعة اللحظة، من الفضول، من الدهشة الأولى. وكأنني لم أشب يومًا.
لكن هذه الصورة المبهجة ليست كاملة. إذ أن أغلب وقتي، في الحقيقة، أقضيه قلقًا. ذهني يعمل كما لو أنه يفكر للمرة الأخيرة. أشعر أحيانًا وكأن ذاكرتي في "وضع الطيران"، لا تلتقط التفاصيل بل تسابق الزمن لتنهي المهام بإتقان. أتنقل بين مشاريع، أكتب، أبحث، أرتب، أُبدع في التنظيم أحيانًا أكثر مما أبدع في الفن. فأين مكاني الحقيقي؟ هل أنا فنان؟ أم مجرد شخص يعيش بعين فنان وقلب مشغول؟
السؤال يلحّ عليّ: لماذا لا أرتاح إلا إذا تحدثت إلى نفسي كفنان؟ ما الذي يدفعني لأن أصدق بأنني "فنان بالفطرة" رغم أنني لم أقدم شيئًا "فعليًا" للعالم؟ لم أعرض لوحة في معرض، لم أنشر كتابًا، لم أُصدر ألبومًا موسيقيًا. ومع ذلك، حين أقرأ لفنانين سبقوني، حين أطلع على رسائل فان غوخ أو تأملات بول كلي أو هواجس نيتشه، أشعر أنني بينهم. لا أنتمي إلى صمت الواقع، بل إلى ضجيج الداخل.
وهنا يكمن التناقض الذي لا أعرف كيف أحلله: ما بين إنتاج الفن وممارسة الحياة كفن، ما بين المعرض والمرسم الداخلي، ما بين صخب العالم وصمت الذات. هل يكفي أن ترى العالم كفنان لتكون كذلك؟ أم أن الفن لا يتحقق إلا حين يغادر دائرة الذات إلى العالم الخارجي؟ وهل الفن في جوهره إنتاج أم شعور؟ فعل أم وعي؟
أظن أنني أحاول، عبر هذه العادات، أن أحيا بطريقة تمنحني المعنى. أن أبني عالمي كما لو أنه عمل فني قيد الإنجاز. وربما تكون هذه هي الحقيقة الصغيرة التي أملكها: أنني لا أعيش كي "أنتج" الفن، بل كي "أكونه". هذه العادات التي تبدو غريبة في ظاهرها، ليست إلا محاولات دائمة لاستحضار دهشتي الأولى، لاستمرار الحوار مع الطفل الذي في داخلي، مع الإنسان الذي يرى كل لحظة كأنها لوحة لم تكتمل بعد.
ربما لا أملك شهادة فنان، ولا توقيعًا على لوحة مباعة، لكنني أعيش كما لو أن كل شيء في حياتي قابل لأن يُرى بعين الفن. وربما، في نهاية المطاف، هذه هي أجمل هدية يمكن أن تهديها الحياة لإنسان: أن يعيشها كما لو أنها قصيدة، حتى لو لم تُكتب بعد.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق