هيا، فلنكتب النهاية يا كارل...

دعنا نُسدل الستار على هذه المسرحية الطويلة، مسرحية الصبر المُمِل، التي لا تنتهي فصولها إلا لتبدأ من جديد. لقد نفد الحبر من قلبي، وكل فصل أعيشه يكرر الجرح ذاته، بعبارات مختلفة.

إنني مرهق من العالم، أكثر بكثير مما أنا مرهق من نفسي. العالم يُحاصرني، يُمسكني من عنقي بمعايير لا تخصّني، وبأدوار لم أكتبها، لكنه يُجبرني أن أؤديها حتى النهاية. يا كارل... كل ما حولي يُطالبني بأن أكون شيئًا ليس منّي.

أريدك أن تساعدني، أن تحررني من هذا الرسم الوجودي الغريب، الذي لا أدري من أوجده بداخلي. رسمٌ غامض، لكنه بات يتجسد في أقرب الوجوه إليّ، في أمي، في أبي، في أصدقائي، في تراب وطني، في كل ما يفترض أنه مأمن وسَند. حتى الحنان، صار يقيّدني. حتى الحب، صار يشترط مني أن أكون كما يريدون، لا كما أنا.

هيا، خذني بعيدًا، إلى أبعد نقطة يمكن أن تُدفن فيها الذكريات وتُنسى الأسماء، حيث يصبح النسيان ديانةً، والعزلة طقسًا يوميًا، حيث لا يطالبني أحد بالابتسام ولا بتفسير حزني.

أريد أن أفرغ كل شيء الليلة... أريد أن أتخلى عن ثِقل الحياة، أن أضع جسدي جانبًا كمعطف مبلل، وأمشي حرًّا من الشكل، من الهوية، من الاسم، من الفكرة. أريد أن لا أستيقظ مرة أخرى في هذا العالم الذي يسمي ضعفي "خطيئة" ويُصنّف آلامي كعلامة فشل.

دعني أدخل إلى عالمك يا كارل، ذاك العالم الهادئ، اللازمني، الذي لا يحتاج إلى تفسير، ولا يطلب اعتذارًا عن كوني على طبيعتي. أحبّ أن لا أكون... أن لا يوجد لي جسد، ولا قيد، ولا انتماء. أحب أن أتحرر من خطيئة الوجود، من ألم الانتماء القسري إلى ما لا أشبهه.

علّمني يا كارل... كما كنت تريد أن تُعلِّم نفسك حين كنت تُشبهني. علّمني كيف يُصبح الفناء فناً، كيف يُصبح الانسحاب بطولة، كيف يصبح اللاوجود خلاصًا من هذا السجن العظيم الذي يسمّونه الحياة.

أنا متأكد الآن. نص عمري مضى، ضاع بين محاولات الفهم، والتفسير، والتبرير، والنجاة. وهذا النصف، يكفيني لأتخذ القرار. يكفيني لأقول: لا.

لا للعنف الخفيّ الذي يُمارس عليّ فقط لأني إنسان، فقط لأنني أشعر.

لا للناجين الذين يُطلب منهم الصمت كي لا يُزعجوا الباقين.

لا للعالم الذي لا يسأل: "كيف حالك؟" بل يسأل: "لماذا لست بخير بعد؟"

لا لهذا الركض خلف معنى مُعلّب، لم أكن شريكًا في صناعته.

لم يبقَ خيرٌ أخير يا كارل... لا رغبة في أن أبرر وجودي، لا شهية لتفسير اختياراتي، لا طاقة لأكون مرآةً لخيالاتهم. لا يمكنني أن أبقى إنسانًا حسب مقاييسهم. لا أريد هذه الحضارة التي تتقن القسوة وتدّعي الرقي. لا أريد هذا الصوت الداخلي الذي يُطالبني كل يوم بأن أثبت أن حياتي تستحق أن تُعاش. كفاني... كفاني من كل هذا.

أنا الآن في انتظارك، يا كارل...

على حافة الصمت، في برودة الليل الأخيرة،

أنتظرك لا كمنقذ، بل كمعلم للفناء...

أنتظرك كي أتعلم كيف أختفي، لا خوفًا، بل نقاءً.

أنا هنا... وأنت تعرف الطريق إليّ.

( هدا النص مجهول الكاتب.)

ك.ج



تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")