حين لا تكون الحياة على المقاس
هنالك لحظة تتكرر في ذهن الإنسان كثيرًا، تبدو بسيطة ولكنها تختزل المأساة كلها: "سأنتظر قليلاً حتى أكون جاهزًا." جاهزًا للحب، للاستقرار، للارتباط، لاتخاذ قرار مصيري. لكنها لحظة مراوغة، لأنها في الحقيقة لا تأتي. نكتشف أن الحياة لا تحترم خططنا ولا تلتزم بقواعدنا. نعِد أنفسنا بلحظة اكتمال، ولكننا نكتشف لاحقًا أن المجازفة وحدها تمنح المعنى، أن الحدس، لا البرهان، هو ما يقودنا إلى الحقيقة، أو على الأقل إلى التجربة. والإنسان لا يُبنى إلا عبر التجربة.
كلما انتظرنا "النسخة المحسّنة" من
أنفسنا، كلما اتسعت الهوة بيننا وبين الحياة. كأننا نراقب فيلمنا من وراء الزجاج،
دون أن نملك الجرأة لفتحه.
ولكن حتى حين نغامر، نجد أنفسنا نبحث عن معنى
آخر: السعادة. وهنا نقع في فخ أخطر: السعادة التي تُقاس. تلك التي تُعلّق على
شماعة الظروف: المال، الأشخاص، الامتلاك، السفر، الاعتراف. نُصبح مستهلكين... نؤمن أن السعادة شيء يُشترى أو يُكسب، بينما هي في حقيقتها مزاج داخلي،
استعداد لا يُقاس بشروط خارجية.
وفي خضم هذا كله، نحاول أن نحب أنفسنا. نمنحها
قيمة. نقول: "أنا أولًا." ولكن هذا القول، رغم صحته، يحمل سُمًّا صغيرًا
إن لم ننتبه له: قد يتحول إلى حاجز بيننا وبين الآخر. عندما نُسقط منظومتنا الخاصة
على الجميع، دون فهم أو تعاطف، نُصبح وحدنا دون أن نشعر. فنحن لم نحب أنفسنا، بل
فقط دافعنا عنها ضدّ الآخر، كأن الآخر خصم.
ثم نصل إلى مأزق آخر: الهوية. ماذا نؤمن؟
ولماذا نؤمن؟ أحيانًا، في محاولتنا للانتماء، نُراكم قناعات ليست لنا. نعيش أفكار
الآخرين، نُردّدها، نُدافع عنها، ولكننا لا نعرف من نحن وسط هذا الزحام. تصير
علاقتنا بالجماعة أقوى من علاقتنا بذاتنا. ويضيع اسمنا الحقيقي، ذلك الذي لا يحتاج
إلى إثبات، بل فقط إلى صدق.
تأملات في الممارسة الممكنة
كلما حاولنا أن نعيش وفق تصوّر مثالي، نجد أن
الحياة تُفلت من بين أيدينا. نرسم لها خرائط مفصلة، نُهيّئ أنفسنا للمراحل
القادمة، نربط الحب بجهوزية معينة، ونعلّق السعادة على شروط خارجة عنا، ونُعرّف
أنفسنا من خلال معايير نابعة من تصورات الآخر أكثر من اتصالنا بذواتنا. لكننا، في
عمق كل ذلك، نكتشف أن هذا السعي الصارم لا يُنتج طمأنينة، بل قلقًا. وأن الحقيقة
ليست في الانضباط الخالص ولا في التمرد العشوائي، بل في نوع من الانسجام الداخلي،
في توافق هادئ بين ما نريده وما هو ممكن، بين واقعنا وحدسنا، بين الذات والآخر.
من هنا، يصبح الحديث عن التوازن ليس ترفًا
نظريًا، بل ضرورة وجودية. توازن لا يعني الثبات، بل القدرة على التأرجح دون
السقوط. تأملات صغيرة، لكنها عميقة، قد تساعدنا على المضي قُدمًا، بقدر أقل من
الصراع وأكثر من القبول والصدق.
أولًا: درّب نفسك على القفز في اللحظة.
من أكثر العوائق التي تحول دون عيشنا الحقيقي
لفصول الحياة المهمة هو انتظار الجاهزية الكاملة. نعلّق الحب على شماعة النضج،
ونؤجل الحلم حتى اكتمال الظروف. ولكن هذا الاكتمال المأمول غالبًا لا يأتي، لأنه
ليس شرطًا للحركة بل وهمٌ يقيّدها. القفز في اللحظة لا يعني التهور، بل هو فعل
وعيٍ وشجاعة. هو أن تبدأ بما تملك، لا بما تظن أنك تحتاج إليه. أن تخوض التجربة
وأنت على يقين أنك ستنضج من خلالها، لا قبلها. المجازفة ليست هروبًا من التخطيط،
بل ثقة في أن الطريق يكشف نفسه حين تمشيه.
ثانيًا: أعد تعريف السعادة من جديد، بصوتك أنت.
في زمن تسويق الأحلام، تُصبح السعادة منتجًا
معلبًا، مرتبطًا بالامتلاك والنجاح الظاهري. ولكن السعادة الحقيقية ليست في
الخارج، بل في الداخل: في لحظة هدوء داخلي، في فنجان قهوة بصحبة من نحب، في غروب
يُدهشك رغم تكراره. السعادة الحقيقية تتخفى خلف الأشياء الصغيرة التي لا تُشترى،
وتنكشف فقط حين نُبطئ وننصت. ابحث عن تعريفك الخاص لها، ذاك الذي لا يتغير بتقلب
الأسواق أو الصور على الشاشات.
ثالثًا: وازن بين حب الذات والانفتاح على الآخر.
تقدير الذات ضرورة، لكنه ليس بوابة للعزلة أو
التفوق الأخلاقي. كثيرًا ما يُساء فهم حب الذات فيُترجم إلى نوع من القطيعة أو
التجاهل للآخرين. بينما الحب الحقيقي للذات ينطوي على فهم عميق لها، وهذا الفهم
بالذات هو ما يفتح الباب للتعاطف مع الآخر، لا الترفع عليه. حين تحترم حدودك،
ستفهم أيضًا حدود غيرك. حين تعرف دوافعك، ستقدر أن ترى دوافع الآخرين دون خوف أو
دفاع. بذلك، لا تصبح العلاقة صراع أولويات، بل حوار واعتراف متبادل.
رابعًا: حرّر إيمانك من الاستنساخ.
ليس من الضروري أن تؤمن بما يؤمن به الجميع،
ولا أن تستعير قناعات فقط لأنها شائعة أو مقبولة. أن تكون مختلفًا لا يعني أن تكون
معاديًا، بل صادقًا. أن تُراجع أفكارك لا يُفقدك ثباتك، بل يمنحك جذورًا أعمق في
الذات. العلاقة الصادقة مع النفس تمرّ عبر لحظات شكّ، تساؤل، وقلق. لكن هذا هو
طريق الاكتشاف. أما الانتماء الأيديولوجي الذي يُغلق الباب على السؤال، فهو راحةٌ
زائفة تُخدر الذات أكثر مما تُحررها.
وأخيرًا: تعلّم أن تُرافق الحياة بدل أن تحاول السيطرة عليها.
ليست الحياة مشروعًا نُديره من فوق، بل نهرًا نتعلم السباحة فيه كل يوم. فيها ما لا يُخطط له، وما لا يُفهم إلا لاحقًا. وفيها أيضًا ما يُفقد دون سبب وما يُمنح دون طلب. فلا معنى لأن ننتظر لحظة الاستعداد التام، لأنها ببساطة لا تأتي. المعنى الحقيقي يكمن في أن نُسائل أنفسنا باستمرار: "هل لدي الشجاعة لأبدأ، رغم خوفي؟" في هذا السؤال وحده تبدأ الحياة، وتتسرب إلى الداخل.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق