الورقة التي سقطت من دفتر الكون

أن تعيش مفكرًا أو فيلسوفًا… هذا الخيار يبدو لأول وهلة شرفًا، امتيازًا، أو ربما لعنة. أن ترى ما لا يراه الآخرون، أن تُحدّق في الأشياء الصغيرة، أن تصغي إلى ما لا يُقال، أن تفكّك الظواهر وتنبش في الأسباب، وأن تبقى دائمًا في مسافة ما بينك وبين الحياة نفسها. لا تعيشها كما يعيشها الآخرون، بل تراقبها… تحللها… تكتب عنها.

أما أن تعيش كأيّ شخص آخر، ببساطة، بعفوية، بأن تكون حاضرًا في اللحظة دون التفكير في معناها، دون محاولة عقلنتها، فهو نوع من الهدنة مع العالم. فيه مسامحة غير معلنة مع الحقيقة، قبول عميق بأنك لست مسؤولًا عما يحدث، وبأن العالم لا يحتاج إصلاحك بقدر ما يحتاج تجاوزه. هل أُخطئ إن قلت إن في هذه العادية راحة؟ وفي هذا التفكير عذاب؟

في أزقة طنجة، حين أتمشى، أبحث عن تفصيلة لا يراها غيري. ربما ورقة على رصيف، أو جدار متهالك تسرّب منه الزمن… أبحث عن شيء أكتبه. لكن في أعماقي، لا أجد في كل ما أفعله تميّزًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. فأن أكتب لا يعني أنني فهمت، وأن أفكر لا يعني أنني أفضل. الحقيقة ربما أنني فقط عاجز عن العيش ببساطة.

أحيانًا، أشتهي تلك الحياة الخفيفة: أن أكون مجرد شاهد في المسرح لا ناقدًا له. أن أتناول قهوتي دون أن أكتب عنها. أن أقول "صباح الخير" دون أن أفكر في معنى "الخير". ولكن، ثمّة ما يشدني دائمًا إلى ذاك الثقل: المسؤولية.

أرى أننا نحيا حياة واحدة فقط، وقد لا يكون في يدنا تغيير الكون، لكن في يدنا أن نسهم في فهمه. أن نقدّم شيئًا، أي شيء، للذين يأتون بعدنا. أن لا نكون عابرين فقط. هذه الحياة، مهما كانت عبثية، هي فرصة. وربما الفرصة الوحيدة لفهم أصل المشكل. ثم محاولة… محاولة فقط… في تقديم حل، فكرة، زاوية، معنى.

قد تعتبر ما أقوله رأيًا ذاتيًا. ولكن إن كنت تعيش من دون مساءلة، من دون تفكير، من دون مسؤولية... فأنت، عفوًا، لست بريئًا. بل أنت جزء من المشكلة.

ك.ج



تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")