ليست الدولة جدّةً حكيمة
أما الجدة، فوجهها خريطةٌ أخرى. وجهٌ محفور
بتجاعيد تجمّعت من الضحك، من البكاء، من الانتظار، من النظر الطويل في عيون
الآخرين.
الدولة تدبّر المجتمع، نعم، لكنها لا تربيه. هي تُنظّم السلوك، لكنها لا تُعيد ترتيب الأرواح. تصدر القانون، لكنها لا تُلهِم أحداً. أما الجدة، فبكلمة واحدة في منتصف الليل، قد تُغير مجرى يومك، أو حياتك.
في حضرة الجدة... يولد الإصغاء
تخيّل، فقط، مشهداً بسيطاً: الجدة، وسط العشيرة، حول نار تتراقص في صمت الليل. واحد يشكو فقره، آخر يتحدث عن خيانةٍ ألمّت به، ثالثٌ يعترف بخطأه.
لا أحد يُقاطع...لا أحد يُحاضر...الجدة تستمع...بعينٍ واحدة تُصغي، وبالأخرى ترى ما بين السطور، ما بين الأنفاس...ثم تتكلم... لا بالوعظ، بل بالحكاية.
"كان جدك يصرخ في وجه الريح، فلما سقطت
عليه الصخرة، قال: هذا جزاء من لا يصغي للصمت."
ما هذه إلا شذرة، لكنها تُثمر درساً...لا يحتاج أحد لتفسيرها، فكل واحد يسمع فيها ما يناسبه.
الدولة تُدير، الجدة تُلهم
الفرق بين الدولة والجدة، هو الفرق بين التنظيم والمعنى، الدولة تحصي، تراقب، تُدير، تُحاسب...لكنها لا تسمع أنين الأرواح، ولا تفهم لَعثمة من ضلّ الطريق.
تُدير الدولة الموارد، توزع المناصب، تُنشئ مؤسسات... لكنها لا تملك تلك العين التي ترى الحزن خلف الابتسامة، ولا تملك الأذن التي تميّز بين صرخة الغضب وصرخة الاستنجاد، ولا القلب الذي يُدرك أن بعض الأخطاء ما هي إلا نداء خفيٌّ للحب.
الحكمة لا تُدرّس، بل تُورث
الحكمة لا تُستورد، لا تُكتسب بشهادة، ولا
تُحقن في المراسيم الوزارية.
الحكمة تُروى...تنتقل مثل العدوى من قلبٍ إلى قلب، عبر الصمت، عبر القصص، عبر الحضور.
والجدة لا تدّعي الحكمة، لكنّها تمارسها حين
تختار الصمت بدل الكلام، أو حين تروي حكايةً تنتهي بلا خلاص واضح، وتدع كلّ واحدٍ
يصنع تأويله.
في حين تحاول الدولة أن تُعلّم "المواطنة"، تُنتج الجدة فهماً حقيقياً للانتماء. في حين تطلق الدولة برامج للتنمية، تهمس الجدة بكلمات تغيّر مصير إنسان. في حين تطلب الدولة الولاء، تمنح الجدة المعنى.
هل يمكن للدولة أن تتعلّم من الجدة؟
هل يمكن للدولة أن تُبطئ إيقاعها قليلاً؟ أن تنحني لتسمع صوت الطفل الذي لم تُدرجه الإحصاءات؟ هل يمكن لوزير أو والي أو مدير أن يصمت قليلاً، ويستمع إلى حكاية بدلاً من جدول أعمال؟ هل يمكن للسياسة أن تتلوّن بالحكاية؟ أن تخرج من دائرة الأوامر إلى دائرة الإلهام؟
نحن لا نحتاج فقط إلى إدارة ناجحة، بل إلى حضن دافئ... لا نحتاج فقط إلى قوانين صارمة، بل إلى معنى نعيش من أجله... لا نحتاج فقط إلى صوت "السلطة"، بل إلى صوتٍ يشبه صوت الجدة حين تقول في الليل: "لا بأس، غداً يومٌ آخر".
ماذا لو كانت الدولة ناراً؟
ماذا لو جلس الناس حول مؤسساتهم كما يجلسون حول النار؟ ماذا لو كان لكل حيّ "مجلس الحكايات"؟ ماذا لو استُبدلت نشرات الأخبار بسرد قصصيّ عن ناسٍ حقيقيين؟ ماذا لو بُنِيت القوانين انطلاقاً من الحكايات، لا من الفرضيات؟ ماذا لو استرجعنا تلك الليالي التي كنّا نبكي فيها بعد قصة، ونستفيق ونحن مختلفون؟ حينها فقط، تصبح الدولة أكثر من آلة... تصبح ناراً وسط عشيرة، تحيط بها وجوهٌ من لحمٍ ودم، وذكريات، وأمل، وحكايات لم تُروَ بعد.
الدولة التي تُنصت تتحوّل
الدولة، حين تتعلّم الإصغاء، تصبح أكثر شبهاً
بالإنسان.
وحين تُدرِك أن لكلّ فردٍ حكاية، تبدأ برؤية
المجتمع لا كمجموعٍ رقمي، بل كنسيجٍ حيّ.
وحين تدع النار تشتعل لا في المواقد فحسب، بل في الكلام، تبدأ الحكمة في الصعود من تحت الرماد.
ولعلنا نحتاج أن نستعيد الجدّات، لا في بيوتهن
فقط، بل في صميم تفكيرنا السياسي، التربوي، الاجتماعي.
لعلنا نحتاج أن نتذكر:
أن إصلاح المجتمع لا
يبدأ من البرلمان، بل من الحلقة الصغيرة حول النار، حين يجلس الجميع، صامتين،
بانتظار حكاية تغيّرهم من الداخل.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق