عن الإنسان الحديث ومسؤوليته المؤجلة

يدهشني، بل يؤلمني، أن أرى الناس وقد ألفوا خطيئتهم، كأنها قميص نوم اعتادوه أو عادة مسائية لا يُفكر فيها أحد. يدهشني أنهم، بدل أن يقفوا عند هوة ما اقترفوه في بناء هذا العالم الهشّ، يستمرون في المساهمة في خرابه، ثم يغطّونه بغطاء الكلمات الكبيرة: "الحتمية"، "التاريخ"، "التقدم".

أي تقدم هذا الذي يعبر فوق الإنسان لينقله من قلبه إلى جيبه؟ أي حتمية تلك التي تُنتج العزلة، وتخدّر الوعي، وتبدّد البهجة من وجوه الأطفال؟ أي تاريخ ذلك الذي لم نستشر فيه، ثم وجدنا أنفسنا جنوده دون علم، وعُشّاقه دون رغبة؟

يقال لنا إن هذا هو العالم، وأنه لا جيل معين مسؤول عمّا هو عليه. ولكن، ألم يكن آدم وحواء وحدهما حين أُخرجا من الجنة؟ هل انتظر الله استفتاء الجماعات كي يُنزِل العقوبة؟ خطيئة واحدة، لحظة واحدة، قلبت المصير كله. ونحن، في كل صباح، نعيد تلك اللحظة بأشكال جديدة، فلا جنة نحافظ عليها، ولا جحيم نخشى الاقتراب منه.

لقد ابتلعنا الزمن دون أن نعي، أضعنا أنفسنا بين قوائم الانتظار، وشاشات الهواتف، ووعود الحياة السريعة التي لا تترك في القلب إلا العدم .صرنا نعيش في مرحلة يسمونها ما بعد الحداثة، وأنا أتساءل:

ما بعد الحداثة؟ أم ما بعد المعنى؟ ما بعد الإنسان؟ أم ما بعد الشعور؟ وكيف لمرحلة بهذا الكم من التيه أن تُسمى مرحلة، وهي لا تُقيم في أرض ولا تعترف بسماء؟

ثمّة شيء بداخلي، ولست أدري إن كان هذا الشيء غضبًا أم شوقًا، يدعوني لأفكر في "المسؤولية" من جديد.

هل حقًّا نُطالب بأن نكون أوفياء لنصوص كُتبت لقرون أخرى، دون أن نملك الحقّ في أن نسائلها أو نُكملها بما نعيشه؟ هل الطاعة أسمى من الإبداع؟ هل الاتّباع أرفع من الاكتشاف؟ هل غاية الإنسان أن يُعيد ما سبق، أم أن يجرؤ على أن يُضيف؟

أنا لا أنكر الجذور، ولا أسخر من الأشجار القديمة، لكنني أتساءل:

ألا يحقّ للفرع الجديد أن ينحني قليلاً نحو ضوء مختلف؟ ألا يحقّ للريح أن تهمس في أغصاننا بما لم تهمس به من قبل؟ لماذا نخاف أن نبتكر تصورًا للحياة، وكأننا نرتكب كفرًا لمجرد أننا نحاول أن نحيا بشكل مختلف؟

يا عزيزي العالم، إنني لا أبحث عن خلاص فردي، ولا أدعو إلى فوضى تُهدم بها المعابد. كل ما أرجوه هو أن نعيد تعريف الكلمة التي ضاعت: المسؤولية. أن لا نعيش كأحفاد نادمون، ولا كأيتام صامتون، بل كأرواح حرة، تنظر إلى الماضي بعين الامتنان، وإلى المستقبل بعين الاختراع.

أليست الخطيئة الحقيقية اليوم هي أن نستمر في فعل ما نعلم أنه يؤذينا؟ أليست التوبة الجديدة، في هذا الزمان المُغبرّ، هي أن نجرؤ على الحُلم؟ أن نحلم بحياة أكثر صدقًا، لا تمليها علينا الشركات، ولا تحرسها الجدران، حياة بسيطة، لكن كاملة.

هادئة، لكنها عظيمة. غير مرجعية، لكنها إنسانية... بعمق.

لا أدعوكم إلى الانقلاب على كل شيء، بل إلى أن تسألوا عن كل شيء، وأن تعودوا من حيث بدأ النور: من الداخل. فمن الداخل وحده، تُبنى الجنة من جديد.

ك.ج


تعليقات

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")