حواريات مارتن و كارل: الجامعة التي نسيت أن تُحبّنا
في مساء رمادي بمدينة الرباط، حيث الغيم يهبط مثل توقعات بلد حول عاصمته، يجلس مارتن في مقهى بأكدال حوله طلاب متفرقون، يحملون كتباً بأغلفة باهتة وهواتف محمولة مليئة بالضجيج...يدخل كارل، يحمل في يده كتاباً لميخائيل نعيمة، وعلى وجهه ابتسامة تائهة.
كارل (جالساً بلا دعوة):
الغريب في الأمر يا مارتن، أن الذين يبحثون عن
معنى لحياتهم يُتّهمون بالترف الفكري.
وكأن الأسئلة الكبرى حكر على من شبع.
مارتن (ينظر إليه، متعب الوجه، مشوش النظرة):
ربما لأن الجوع لا يترك فراغاً في النفس إلا
لطلب الخبز. لكنني
شبعان اليوم، ومع ذلك أحس أنني أجوف. كلما
فتحت كتاباً علمياً أو حضرت محاضرة، شعرت أن شيئاً ما لا يُقال... شيء ضروري،
كالماء.
كارل (يربت على الطاولة بإيقاع لا واعٍ):
أتعرف ما المشكلة؟ أن الجامعات تُعلّمنا كيف
ننجح، لا كيف نحيا.
كيف نحل المعادلات، لا كيف نعيش التناقض.
كيف نُنتج، لا كيف نُحب. وأسوأ من ذلك، تعلّمنا أن المعنى يأتي بعد نيل الدبلوم، بعد الترقية،
بعد الاستقرار...
لكن الحقيقة؟ المعنى لا يأتي. نحن من نصنعه.
مارتن (بصوت خافت):
في المغرب، يا كارل، كم شاباً يدخل كلية الطب
أو الهندسة لأنه نجيب في الرياضيات، لا لأنه يريد شفاء الأرواح أو بناء الجسور؟ وكم
من طالبة تدخل مدرسة عليا للهندسة لأنها تريد أن ترفع رأس العائلة، لا لأنها تحب
الحديد والإلكترونيات؟ نحن نختار النجاح، لا الرسالة. ثم نستيقظ فجأة، في الثالثة والعشرين... فارغين.
كارل (يميل إليه، جاداً):
لكن في هذا الفراغ، يكمن إمكان التحوّل...من لا يشعر بالفراغ، لن يملأه. من
لا يتساءل، لن يخرج من النمط. أنت
محظوظ يا مارتن... أنت في طور الولادة الثانية.
مارتن (بشيء من التهكم):
الولادة الثانية؟ في مجتمعات تُقدّس الشكل وتخاف من الأسئلة؟ يا كارل، حين تسأل "لماذا أعيش؟"، يردّون: "كن
ممتناً، غيرك لا يملك ثمن الخبز". لكنني
أريد أكثر من الخبز. أريد أن أشعر أنني حي.
كارل (بصوت خفيض، وكأنه يعترف بشيء حميم):
أن تشتهي الحياة بعمق، هذه نعمة قلّ من يذوقها. صاحبك المهندس الذي يشتغل في شركة أجنبية، ويتقاضى أجراً ممتازاً،
لكنه لا ينام إلا بحبوب... هذا ليس حياً. والطبيبة
التي تنجح في كل شيء وتبكي كل صباح قبل الذهاب إلى المستشفى... هذه ليست فاشلة، بل
مشتاقة إلى ذاتها الحقيقية.
مارتن (يشرب رشفة من كأسه البارد):
لكن من أين نبدأ؟ نريد معنى، نعم... لكن
الكلّ يريدنا ناجحين وفق مقاييس جاهزة:
وظيفة، زواج، سيارة، رضى العائلة. أي شاب يقول "لا"، يُعتبر ناكراً للجميل.
كارل (ينهض قليلاً ثم يجلس، كأن الفكرة أثقلته):
نبدأ من الصدق....نبدأ من أن نصغي لأنفسنا كما نصغي لقصيدة نحبها. هل تريد أن تصير مهندساً؟
أم أن هندسة الأفكار تشدّك أكثر؟ هل أنت طبيب لأنك تحب الحياة؟ أم
لأنك تخاف من الموت؟
السؤال ليس في ما تعمل، بل في لماذا تعمل. وفي كل يوم، اسأل نفسك: "ما الذي لا أستطيع التخلّي عنه دون أن
أموت قليلاً؟" ستجد
المعنى هناك... في ذلك الذي لا يُقايَض.
مارتن (يضع رأسه بين كفيه):
أحياناً أحس أننا جيل ضائع... جيل يحمل كل الأدوات ولا يعرف ما يبني بها.
كارل (يضع يده على كتفه):
بل أنتم جيل الولادة القاسية... جيل يرى الخراب ويحاول أن يغنّي. جيل
تعب من الشعارات ويبحث عن الأنسنة.
لا تيأس يا مارتن. من
يبحث عن المعنى، حتى ولو تعثّر، حيّ أكثر ممن سار في طريق غيره دون أن يسأل.
مارتن (ينظر إلى الخارج، إلى المارّة والمباني
والسماء المغبرّة، ثم يقول بتأمل):
ربما... ربما يجب أن أكتب عن هذا. ليس لأُجيب، بل لأصرخ... لأُرِيَ
الآخرين أنني رأيت شيئاً.
كارل (يبتسم للمرة الأولى، بعينين تشعّان
دفئاً):
اكتب...اصرخ....امشِ على الحافة....فقط لا تصمُت...لأن الصمت، يا مارتن، هو موت الذين لم يُدفنوا بعد.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق