كيف نعيش في عالم العنف النفسي؟
نحن لا نُولَد خائفين، مُجْهَدين، مهزومين من الداخل. بل نُربّى على الخوف، ونُدرَّب على القبول بالألم، ونُعلَّم أن نلبس أقنعة الطاعة حتى ونحن نبكي تحتها. المجتمع لا يقتلنا بسكين، بل يغرس فينا كلمات، مفاهيم، صِيَغًا من الخجل والخضوع... حتى نموت ونحن نبتسم، وننزف من الداخل ونحن نحيّي الآخرين.
لكن، من أين يبدأ هذا العنف؟ هل باسم التربية؟ أم باسم الثقافة؟ أم في جذور التنشئة الاجتماعية التي تشبه حقنةً طويلة الأمد، تُغرس في روح الطفولة المبكرة، فيظل مفعولها يسري فينا حتى آخر العمر؟
وجوه العنف النفسي في قناع المجتمع
هناك عنفٌ لا يُرى، لا يُصوَّر، ولا يُشار إليه. لا يترك كدمات على الجلد، بل شروخًا في الروح. هو كشيء فاسد في نبع الماء: لا يظهر على السطح، لكنه يُفسد كل ما يمرّ به. هذا العنف يسري في تفاصيل الحياة اليومية، يتسرّب من بين الكلمات، يندسّ في القيم، ويتخفّى داخل العادات والمسلّمات، حتى يتماهى مع الطبيعي والعادي والمألوف، فيصير جزءًا من الهواء الذي نتنفسه دون أن نشعر أنه يختنقنا.
أوّله عنف التوقّعات.
ذاك العنف الذي يقول لك، همسًا أو صراخًا: "كن كما نريد، لا كما أنت."
المجتمع لا يُحبّك لذاتك، بل لصورتك كما يتخيّلها. إن كنتَ ناجحًا، جميلًا، قويًا، موافقًا لقوالبه... فمرحبًا بك في دوائره. أما إن خالفت، اختلفت، تأخّرت، أو تأملت... فستُهمّش، ويُسخَر منك، أو تُمحى من مشهد الحياة كما يُمحى اسم غريب من سجلٍ قديم.
وثانيه عنف الصمت.
حين يُؤلمك شيء في داخلك، لكن لا يُسمَح لك أن تتكلّم.
حين يصبح الحزن "عارًا"، والضعف "نقصًا"، والبكاء "فضيحةً اجتماعية".
نتعلّم أن نخنق مشاعرنا، أن ندفن وجعنا تحت ابتسامة مصطنعة، أن نختصر أحلامنا في عبارات مجاملة لا تقول شيئًا. فنعيش صامتين، وفي الصمت تموت أرواح كاملة دون أن ينتبه لها أحد.
ثم يأتي عنف التنميط.
ذلك القفص اللامرئي الذي يوضع فيه الإنسان لمجرّد كونه أنثى أو ذكرًا، صغيرًا أو كبيرًا، غنيًا أو فقيرًا.
المرأة تُقمع باسم "الأنوثة"، كأن رقتها قدر، وصمتها فضيلة، وخضوعها طبيعة.
والرجل يُسحق باسم "الرجولة"، يُحرَم من التعبير، من البكاء، من الانكسار، لأن عليه دائمًا أن يكون "الجبل الذي لا يهتزّ".
كل فرد يُختزل إلى دور، إلى وظيفة اجتماعية، إلى قناعٍ يُطلب منه ألا يخلعه أبدًا، ولو اختنق خلفه.
وأخيرًا، عنف المقارنة والاحتقار.
ذلك الشعور الذي يُزرَع في قلب الإنسان أنه ليس كافيًا، أنه دائمًا ناقص.
من لا يملك، من لا ينجح وفق مقاييسهم، من لا "يُثبت نفسه" في السوق والمشهد... يُحتقر، وإن بصمت.
لا أحد يقول له صراحة: "أنت فاشل"، لكن كل الأبواب تُغلق في وجهه، وكل العيون تمرّ عليه مرور الريح على ورقة خفيفة لا يراها أحد.
الأبواب لا تُغلَق أمامه، لكنها لا تُفتَح أيضًا... وكأنّ الحياة تجلس إلى طاولتها ولا تدعوه للمائدة.
في مرآة التحليل... من أين يبدأ هذا العطب؟
ليس من السهل تحديد منبع العنف. فهو لا يسكن مؤسسة واحدة، بل يسكن النسيج كله. لكن يمكننا أن نقف على ثلاث قوى كبرى تُغذّي هذا العنف:
التربية: الكسر الأول في العمق
منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها الطفل عينيه على هذا العالم، لا يُستقبل بالأسئلة بل بالأوامر. يُعلَّم الخوف قبل أن يتعلّم الفهم، يُدجَّن على الطاعة قبل أن يُمنح حقّ النقد، ويُربّى على الإذعان قبل أن يُتاح له الاكتشاف.
يُقال له: "لا تضحك بصوتٍ عالٍ، لا تركض، لا تبكِ، لا تسأل كثيرًا..."
جُمَل صغيرة، تافهة في ظاهرها، لكنها تفتح في الروح خنادق خفيّة من الكبت والخذلان.
تنمو تلك الكلمات في عمق الوعي، كجذور برية تخنق كلّ نبتة حرّة.
فالأسرة، عن غير قصدٍ في الغالب، تربي أبناءها على الانضباط المفرط، لا على الحريّة المسؤولة.
تُغذّي فيهم الخوف من العقوبة بدل أن تعلمهم فهم الخطأ.
فيكبر الطفل وهو لا يعرف نفسه، بل يعرف فقط كيف يُرضي الآخرين، كيف يتجنّب الرفض، كيف يُخفي ذاته لئلّا يُوبّخ.
وهكذا يبدأ الشرخ الأول...
أن نغترب عن أنفسنا ونحن لم نزل في المهد، أن نكون أطفالًا بأجساد حية، لكن بأرواح ترتدي كمامات الصمت والامتثال، منذ أول صرخة لم يُسمح لها أن تكون حرة.
الثقافة: تكرار الصورة النمطية حتى الموت
الثقافة، في مجتمعاتنا، لا تُبنى كمشروع تحرّر، بل تُصاغ كآلةٍ دقيقة للضبط والامتثال.
ليست جسراً إلى الممكن، بل جدارًا يُحدّد أين يجب أن تقف، وكيف، ولماذا.
فيها كل شيء موضوع في "مكانه": الرجل في خانة الفعل، المرأة في خانة الحياء، الكبير في موقع الهيبة، الصغير في مقعد الإنصات، الجسد تحت غطاء الحذر، والمشاعر تحت عباءة الخجل... وحتى الرغبة، تلك النار المقدّسة في القلب، يُحكم عليها بالصمت أو الذنب.
الثقافة تُعلّمنا ماذا يُقال ومتى يُقال، كيف نضحك دون أن نُثير الريبة، كيف نحبّ دون أن نُفضَح، من نُكرّم، ومن نُقصي خارج الحكاية.
وكأنها تُنزل على أرواحنا مصفوفة وجود صارمة: خارطة لا يُسمح لك أن تخرج عنها دون أن تُسجّل كـ"شاذ"، أو "غير طبيعي"، أو "غير ناضج بما يكفي".
هكذا، بدل أن تكون الثقافة مرايا متعددة نرى فيها أنفسنا في تنوّعها، تصبح مرآة واحدة مشقوقة... من لا يطابق صورتها، يُكسر أو يُمحى.
التنشئة الاجتماعية: شبكة اللاوعي الجماعي
هنا ندخل إلى قلب الغابة، إلى ذلك الحيّز الغامض الذي لا يُرى، حيث تُصاغ الأرواح دون أن تدري: التنشئة الاجتماعية.
إنها العمق اللاواعي الذي تُعيد من خلاله الجماعة إنتاج ذاتها، لا عبر القرارات الكبرى، بل عبر العادات الصغيرة، النظرات، الكلمات العادية، والإيقاع اليومي الذي يبدو بريئًا لكنه يطبع الوعي بصمت.
المدرسة، الإعلام، الدين، الشارع... ليست مجرّد مؤسسات أو فضاءات، بل قنوات تسري عبرها فكرة الجماعة عن الإنسان، وتُغرس في الفرد كالبذور الصامتة التي تنبت دون استئذان.
المدرسة لا تعلّمك كيف تسأل، بل كيف تُجيب.
تُدرّبك على الامتحان، لا على الدهشة.
تمنحك أدوات النجاح داخل النظام، لكنها لا تعلّمك كيف تنظر خارجه.
أما الإعلام، فهو نافذة ملوّنة تُريك العالم كما يُفترض أن يكون، لا كما هو.
يعرض لك النماذج المثالية: الجسد المثالي، البيت المثالي، النجاح المثالي... ثم يتركك في مواجهة واقعك، فتشعر أنك فاشل لمجرد أنك مختلف.
والدين، في صيغته الشعبية المؤدلجة، يُلقّنك الخوف لا المحبة.
يجعل من الله رقيبًا قاسيًا، لا حضنًا واسعًا.
يملأ روحك بعقاب محتمل، بدل أن يملأ قلبك بنور الرحمة.
وهكذا، دون أن تدري، تُشكَّل من الداخل... لا كما أنت، بل كما يُراد لك أن تكون.
كيف نُداوي الروح المكسورة؟
أن تحيا وسط العاصفة لا يعني أن تتخشّب، لا يعني أن تصبح جدارًا صلدًا في وجه الريح، بل أن تتعلّم كيف ترقص في مهبّ الريح دون أن تفقد نَفَسك.
أن تظلّ طريًا من الداخل، مرنًا دون أن تنكسر، حيًّا وسط دوامات الفقد والضغط والتشكيل.
فمعالجة هذا العنف النفسي الذي يتسرّب من المجتمع إلى أعماق الذات ليست مجرّد مسألة تقنية، تُحلّ بخطاب سياسي أو برامج مؤسسية.
المسألة أعمق من ذلك، إنها سؤال وجود قبل أن تكون سياسة، سؤال معنى قبل أن تكون إصلاحًا اجتماعيًا.
نحن لا نطلب تعديل سلوكٍ هنا أو إصلاح مؤسسة هناك، بل نبحث عن خلاص الروح من قبضة التصورات القاتلة، ومن أطر الوعي المُعلّبة التي تصنع من الإنسان مسوّدة باهتة بدل أن تُطلق فيه نبض الحياة.
وإن كان لا بد من بداية، فها هي بعض مداخل المقاومة الشافية، لا بوصفها حلولًا جاهزة، بل كإيماءات نحو نور داخلي يبحث عن لغة:
الوعي: تسمية الجرح هو بداية شفاءه
أوّلُ أبواب الشفاء هو الوعي، لا بوصفه معرفة ذهنية باردة، بل كوميضٍ داخلي يقول: "كفى".
أن نُسمّي العنف حين نراه، لا أن نُسمّيه تربية، ولا أدبًا، ولا احترامًا كاذبًا.
أن نجرؤ على النظر في عيون ما يؤذينا، ونقول له بصوت القلب: هذا يُؤلمني.
أن نكسر صمت العادة، ونمزّق ستائر التبرير.
أن لا نُطبّع مع الألم ولا نُدجّنه، بل نرفعه إلى الوعي، إلى اللغة، إلى الاعتراف.
فالوعي ليس رفاهية، بل فعل مقاومة.
هو أن تقول: هذا الذي يحدث لي ليس طبيعيًا.
هذا الغضب الذي أدفنه ليس عيبًا.
هذا الحزن الذي أحمله ليس مرضًا.
هذه القيود التي وُلدتُ فيها، ليست قدري.
الوعي يُعيد ترتيب الداخل، يُنظّف مرآة الذات من الغبار، ويفتح أول كُوّة صغيرة نحو الضوء...
لا يبدّل العالم فورًا، لكنه يبدّل موقعك فيه.
الفردانية الحقيقية: لا تشبهْ أحدًا
المدخل الثاني هو الاعتراف بالفردانية كقيمة مقدّسة، كفنّ الوجود الصادق في عالم يكره الصدق.
أن تعيش كما أنت، لا كما يُريدك الآخرون أن تكون.
أن لا تمضي عمرك تمثّل أدوارًا لم تُكتب بروحك، ولا ترتدي أقنعة صُنعت في مصانع التوقّعات.
أن تحتمل وحدتك أحيانًا بدل أن تُمحى في الزحام.
أن تكون غريبًا، لا تابعًا.
فالغرابة ليست نقصا، بل سِمةُ مَن لم يخضع، مَن لم يُهذَّب أكثر من اللازم.
أن تختار العيش في الهامش الحرّ خيرٌ من المركز الذي يخنق.
أن تقول: "أنا لست كما تريدون، لكنني كما أحتاج أن أكون."
هذا ليس تمرّدًا أجوف، بل دفاعٌ عن حقّ الذات في أن تكون كاملة، متوحّدة، نادرة.
فالاختلاف ليس لعنة، بل نافذةٌ إلى الذات الأصيلة.
والغرابة... تلك التي يخافها المجتمع، هي لغة الأحرار، وشيفرة الخلاص لمن سئموا العيش كنسخ متكرّرة من حلمٍ لا يشبههم.
الكتابة والفنّ: شقوق النور في جدار العتمة.
المدخل الثالث هو الفنّ، لا كترف جمالي، بل كفعل وجودي، كعلاج داخلي، كحرب ناعمة ضد قسوة العالم.
حين تكتب، ترسم، تعزف، تغنّي، أو حتى تزرع وردة في حديقة النسيان...
أنت لا تهرب من الواقع، بل تخلق واقعًا موازيًا يحمل ملامح روحك.
أنت لا تغلق عينيك، بل تفتحهما أكثر، لكن على عالمٍ لا يُفسَّر بالعنف، بل بالجمال.
الفنّ هو المقاومة الهادئة، هو الصراخ الصامت، هو لغة من لا صوت لهم.
هو الشكل النقيّ للبوح، حين تصبح الكلمات غير كافية.
هو الصيغة الوحيدة التي تستطيع أن تقول بها ما لا يمكن أن يُقال مباشرةً، دون أن تُعاقب، دون أن تُسجَن، دون أن تُقصى.
في المجتمعات التي تُكمّم الأفواه، يصبح الإبداع شكلًا من أشكال التنفّس.
وفي الحضارات التي تُقنّن العواطف، يصبح الشعر واللحن والرسم أدوات شفاء فردي وجماعي.
الفنّ لا يُغيّر العالم في لحظة، لكنه يُغيّر نظرتك إليه...
وهذا وحده كافٍ لتنجو.
مجتمع بديل: دوائر صغيرة من الدفء
وأخيرًا، لا بدّ أن تبحث عن أولئك الذين يفهمونك، لا عن من يحكمون عليك.
ابنِ حولك مجتمعًا صغيرًا يشبهك، يبدأ بكلمة صادقة، بصداقة تُزهر في أرض الوحدة، بفكرة ترفض السقوط في وهم الوحدة المطلقة.
مجتمعٌ يلتقطك حين تتيه، ويُذكّرك بمن أنت حين تنسى.
ففي حضارة الحداثة، حيث يختلط الضجيج بالسرعة، والإنتاجية بالقياس، خسر الإنسان معناه، وأصبح آلةً يجب أن تُثبت وجودها كل يوم، أو تُلقى في ظلال النسيان.
لكن حتى في زحمة الصور والضوضاء، ما زال هناك من يسأل، من يتأمّل، من يكتب...
ومنهم نحن، الذين ندرك أن السؤال بحد ذاته ليس لنعرف، بل لنتذكّر أننا ما زلنا أحياء.
في قلب هذا الصمت الكبير، ينبض سؤال الإنسان عن ذاته، عن حريته، عن حقيقته...
وسؤالنا هذا هو بداية كل مقاومة، وكل تحرّر، وكل شفاء.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق