في لحظة صمتٍ غريبة
في لحظة صمتٍ غريبة، وسط ضجيجٍ لم يتوقف منذ عقود، وجدت نفسي أطرح سؤالًا بسيطًا، بدائيًا، طفوليًا، لكنه خطير:"هل نحن أحياء فعلًا؟"
ولم أقصد بها الحياة البيولوجية، ولا التنقل من عمل إلى عمل، أو من إشعارٍ إلى إشعارٍ في الهاتف المحمول، بل الحياة التي تشعر، التي تندهش، التي تتألم بكرامة، وتفرح كما يفرح المطر حين يلمس الأرض بعد غياب.
في هذا العصر، لم نَعُد نسأل عن الجوهر، بل نكتفي بالسطح. لم نعد نعيش الوجود، بل نمرّ عليه مرور المتفرّج. وحين يُصاب الإنسان بالدوار من كل هذا، يُقال له:
"تجاوز، تابع، ابتسم، لا وقت للحزن".
لكنني أقول: "الحزن علامة أن القلب لا يزال على قيد الوعي. والدهشة دليل أنك لم تُبلع بعد. والقلق، هو رسالة من الذات إلى ذاتها، تطلب فيها موعدًا متأخرًا للحوار."
في الأزمنة القديمة، كان الإنسان يحاور الجبال والأنهار. كان يتنفس الليل بعمق، ويصغي إلى نبض قلبه كما يصغي إلى كون صغير ينبض في داخله. لم يكن الوجود حينها مجرد مرور أو حركة، بل كان حضورًا عميقًا يتفاعل فيه الإنسان مع الطبيعة ومع ذاته. كان الارتباط مع العالم يتجلى في الانصات والدهشة، حيث كان الإنسان يُحيي في داخله أسئلة الروح وأسرار الوجود.
أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. صار الإنسان يُقاس بما يَنتجه، بعدد متابعيه، وسرعة استجابته للبريد الإلكتروني، وكأنّ قيمة وجوده تُختزل في مؤشرات وأرقام. تحوّل إلى ملف رقمي يحمل اسمًا وصورةً ومعلومات اتصال، اختزلت روحه في بيانات وتحليلات سلوكية، وصار في فلك الأرقام لا في مدار الروح.
والأسوأ من هذا كله، أن الكثير منا رضخ لهذا الاختزال، واحتفل به، وارتدى قفازاته، وصفّق لماكينات تصنع وهم الحياة. لقد أصبحنا، بوعي أو بدونه، لاعبين في مسرح خُطط له من قبل من صاغوا هذا العالم الرقمي، نسير في طريقهم وكأننا لم نعد نملك خيارًا آخر.
ومع ذلك، هناك في أعماقنا شيء لا يزال يصرخ بصمت. قد يظهر هذا الصوت في لحظة نوم هادئة، أو تأمل صامت، أو حزن مفاجئ لا سبب له. هذا الصوت ليس اضطرابًا نفسيًا، بل هو نداء الوجود ذاته. نداء يذكرنا بأننا أكثر من مجرد أرقام وبيانات، أكثر من ملف رقمي يُدار عن بعد. هو دعوة للاستيقاظ والعودة إلى الذات، للبحث عن المعنى الذي لم يمت في داخلنا.
الوضعية لا تعترف بما لا يُقاس، ولا تؤمن بما لا يُبرهن، ولا تسمح لك أن تحبّ دون سبب، أو تحزن دون مبرر، أو تصمت بلا تبرير. هي فلسفة الأرقام، والدقة الصارمة، والبراغماتية الباردة التي تحكم كل تفاصيل حياتنا. في هذا العالم، لا مكان للعواطف التي لا تقدم خدمة مباشرة، ولا لصمت القلب الذي لا ينتج صوتًا.
لكن، ما الذي تُنتجه هذه الوضعية؟
مهندسًا ناجحًا، صار يجهل كيف يفتح قلبه للحب. طبيبًا بارعًا، يخشى اللحظات التي لا تتكلم فيها أصوات الأجهزة، ويهاب الصمت. سياسيًا محنكًا، نسي تمامًا طعم البكاء، طعم الرحمة، طعم الإنسان. وأطفالًا يولدون في عالم يعرف كل شيء عنهم قبل أن ينبسوا بكلمة، قبل أن يسألوا عن أسمائهم.
هذه ليست حضارة. إنها خريطة بلا قلب، مسار بلا روح، تقدم بلا إنسانية. والوضعية، إن تُركت بلا ضابط روحي أو إنساني، لا تُنتج تقدمًا حقيقيًا، بل نسيانًا معمّمًا للروح، وانطفاءً بطيئًا للنار التي كان ينبغي أن تضيء دروبنا.
السؤال الذي يتبادر إلى ذهني الآن، هل نحن في حاجة إلى مدرسة فكرية جديدة؟ أعتقد أجل، لماذا؟ لأننا تعبنا من البدايات التي لا تقود إلى شيء، تعبنا من الكلام الكبير الخالي من الممارسة، ومن التكرار الذي لا يحررنا، بل يزيّن قيودنا القديمة. تعبنا من دوائر تُعاد بلا نهاية، تحاكي التقدم لكنها في الواقع تُكرّس الجمود.
إنني أحلم ولنا أريد أكثر من مجرد معلومات تُلقن، أريد مدرسة لا تُدرّس الحقائق فقط، بل تُعلّم السؤال، فكرًا لا يُبرمج الإنسان ليكون آلة، بل يُحرّره ليكون إنسانًا. خطابًا لا يتحدث باسم "العلم" وحده، بل باسم الإنسان بكل أبعاده الروحية والفكرية.
ربما نحن في حاجة إلى نداء الوجود ليس كمذهب جامد، بل أفقًا مفتوحًا يتسع لكل روح تبحث عن المعنى. كمحاولة لتأسيس "فكر بمذاق الشعر"، و"روح تسكن المعرفة"، كمساحة مقدّسة تُبنى بين الضياع والانبعاث، بين الصمت والكلمة، بين الظلام والنور.
و هكذا صدقا أرى هذه المدرسة الفكرية و الفلسفية:
- في زمن ننتج فيه الكثير، ونفهم القليل، نعمل أكثر ونعيش أقل، أدعو إلى انقلاب المعادلة، أن يكون السؤال عن المعنى هو الأصل، لا مجرد الأداء.
- الخيارات كثيرة، لكن الوعي نادر. الأسواق تقول: "اختر ما شئت"، أما أنا فأريد مدرسة فكرية تدفع للسؤال: "من أنت قبل أن تختار؟"
- أريد أن نعيد الاعتبار للتأمل، ليس كترف شرقي أو رفاهية، بل كضرورة للبقاء إنسانًا وسط العاصفة.
- أريد أن نقبل العلم كروح، لا كسيف قاطع بيد قاتل. أريد التقدم بروح، لا هدما أنيقا يبنى على ركام الروح.
على كل حال...إذا وصلت إليك هذه الكلمات، فاعلم أن فيك شيئًا لم يمت بعد. شيئًا يتذكر أنه كان روحًا، وكان حرًا، وكان يبحث عن المعنى منذ طفولته الأولى. ذلك الشيء هو أنت في حقيقتك، و"نداء الوجود" ليس سوى طريقة أحاول ما استطعت أن أرشدك، ربما، إليها: "ارجع... ليس إلى من أنت كشكل نفسي أو ثقافي، بل إلى قدرتك العميقة في رؤية الكل دون أن تذوب في أي جزء من أجزائه، أي إرجع إلى إنسانيتك ككل لا كإطار ثقافي محدود في بقعة جغرافية أو في تاريخ ما من تاريخ الإنسان، العالم، الأرض و الكون..."
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق