حين تعبت من المعنى...
سمعتُ صدى بكاء أمي وهي ترجو الله أن يحفظنا. بكاؤها لم يكن عاديًا، كان متوترًا، كأنها تضعنا واحدًا واحدًا في كفّ يدها وتقدّمنا للسماء. كأنها تحاول أن تملأ فراغًا بشريًا بقوة الإيمان.
وسمعتُ خطوات أبي، وهو يجري في الحياة كأنه لا يثق بها. يركض، لا لأجل المجد، بل كي نكبر في أمان وكرامة. لم يكن يسعى للثروة، بل لسترٍ لا يُخجل أحدًا، ولا يُظهر جوعنا للعالم.
وسمعتُ خطابًا في المسجد يعد الجميع بالجنة. قال الإمام إننا بخير، وأن الله معنا، وأن الدنيا مهما ضاقت، فـ"الصبر مفتاح الفرج". ثم سمعتُ خطابات أخرى، منابر كثيرة، تُعيد وتكرر: "كل شيء بخير."
لكنني توقفت. توقفت وسألت نفسي: لماذا كل هذا الجهد؟ كل هذه الدموع؟ كل هذه الخطب والعقائد والوصايا والدموع واليقين؟ أكُلّ هذا كي نشعر، فقط نشعر، بأننا بخير ما دمنا منتمين وممتثلين وممارسين للعقائد؟ وهل الشعور بالطمأنينة هو حقّ مشروط بالطاعة؟ وهل الطاعة باب للخير، أم ستارٌ ناعم يُخفي وراءه قلقًا لا يعترف به أحد؟
لا يبدو لي أن هذه المقاربة، أعني التكرار، والعاطفة، والوعود، تسهّل طريق الوصول إلى الخير. بل تبدو وكأنها تهدف إلى خلق مناخ من الطمأنينة السطحية، حالة نفسية جماعية تشبه التنويم المغناطيسي.
اندَهشت... لكنني لم أخرج من اللعبة. لم أتمرد كما يفعل "الأبطال" في القصص. بل شاركت، وتماهَيت، ولبّيت ما يُنتظر مني. أطعمتُ كل واحدٍ غداءه المفضل. أسمعتُ كل واحدٍ خطابه المفضل. منحتُ كل واحدٍ الأولوية التي ينتظرها مني، بصمت...لكن الأمور لم تسر على ما يرام.
أعطني إيمانك، أُعطيك وعدًا...
أعطني سلوكك، أُعطيك مكانتك...
أعطني صمتك، أُعطيك مكانًا في الطمأنينة الجماعية...
لكن ما بين المنفعة والخير، هوّة لا يراها الجميع...
المنفعة تُشبع، لكن لا تُحرّر...
الخير لا يُطلب كجائزة، بل يُعاش كاختيار...
أريد في مقالتي هذه أن أقترب من أولئك الذين ما زالوا يظنون أن الفرد لا يستطيع أن يحرّك ثقافة آمن بها مليار شخص. أولئك الذين ينتظرون قدوم نبيهم المفضل، ليعيدهم إلى الطريق، أو ليمنحهم الخلاص. لكن الحقيقة هي أن الخلاص ليس مرسَلًا، بل مُستخرجٌ من وعينا...لن يأتي أحد من السماء...سنأتي نحن، من المستقبل، من الألم، من الأسئلة، من الحيرة...سنعود إلى اللحظة، لا لنهزمها أو ننتصر عليها، بل لنقنعها بأن تستريح... أن تتوقّف عن التوسّع...عن الامتداد اللاهث... عن الهروب نحو ما بعد...
صفوة الكلام...النقد ليس كفرًا، بل وفاءٌ متقدّم...وأن تحب الحقيقة، يعني أن تقبلها حتى عندما لا تشبه أمنياتك...من هناك، من عمق الإنسان، سيولد المعنى الجديد...المعنى الذي لا يَعِد، لا يُطمئِن، لا يُكرّر... بل يُضيء فقط.
ك.ج
تعليقات
إرسال تعليق