عالم يعج بالتفاصيل...
1
ذاكرة الحياة اليومية لإنسان معاصر مثلي ليست سوى فسيفساء من لحظات عابرة، متراكمة، وغير مرتبة، فأنا أواجه صعوبة في الإمساك بتلابيبها أو التحكم بتقلباتها، كفرد يحاول بجهد يائس أن يصنع لنفسه هوية واضحة وسط بحر من الذكريات المتناثرة. يبدو أن عقلي، بشكل لا إرادي، قد ألف نفي الكثير من المحفزات الخارجية، كأنما يبحث عن عزلة مؤقتة، أو عن فسحة هادئة بعيدًا عن ضوضاء المدينة وإيقاعها المتسارع.
2
كنت في السابق أحكم على جمال النساء من خلال أناقتهن الظاهرة، معجبًا بفساتينهن البراقة، وتسريحات شعرهن المعقدة، وتلك اللمسات الجمالية التي تبدو وكأنها لوحات فنية متنقلة. لكن مع مرور الوقت، أدركت أن هذه الأناقة ليست سوى واجهة تستهلك منهن ساعات من التحضير في الحمام، والصالون، وأمام المرآة، في محاولات دؤوبة للوصول إلى الكمال البصري الذي يتوقعه المجتمع.
شيئًا فشيئًا، لم تعد هذه الأناقة تثيرني كما في السابق. أدركت أن الجمال الحقيقي يكمن في البساطة وفي قدرة الشخص على البقاء على طبيعته. ربما في عطسة مفاجئة، أو في تلك التفاصيل العفوية التي تكشف عن ملامح حقيقية غير متكلفة. قليل من العطر الخفيف، وملابس بسيطة تتناغم مع شخصيتها، والكثير من اللا إضافات، هي ما يجعل المرأة جميلة في عيني، بعيدًا عن الأناقة المصطنعة التي تملأ الشوارع، ومكاتب العمل، وكل مكان تطأه قدماي.
في كل زاوية من زوايا المدينة، أرى وجوهًا جميلة ومبهرجة، لكنها في الوقت نفسه متشابهة، كأنما انسحبت منها خصوصيتها وتفردها. أجد نفسي أبحث عن تلك الجوانب التي لا تظهر للعين المجردة، عن تلك الروح الحرة التي لا تخضع لمعايير الجمال الزائفة. الجمال في النهاية ليس في مدى قدرة الشخص على مطابقة صورة معينة، بل في تلك اللحظات الصغيرة من الصدق التي تنبعث من الداخل، فتغمر المحيط بضياء فريد لا يمكن لأي مساحيق أو إضافات أن تصنعه.
3
هكذا أصبحت أرى العالم من حولي، عالمًا يعج بالتفاصيل المتكررة، لكنه في الوقت ذاته يخفي بين طياته جماليات خفية لا يراها إلا من توقف للحظة، بعيدًا عن ازدحام الأفكار والتوقعات.