الخيال: لماذا ليس له حدود؟
ربما سيعيدنا هذا السؤال إلى الجدال الكلاسيكي الذي عرف في عصر الأنوار، قيمة العقل و تحدي الخرافة...فلطالما اعتقد الفلاسفة القدماء أن هنالك فرق بين الخيال ( سأتجرأ و أربطه بمفهوم الميثوس أو الخرافة) و في مقابله يمكن ان نستخدم كلمة اللوغوس تعبيرا عن العقل الذي يمثل التعامل الصحيح مع الواقع…
كلمات أولى
في هذه المقالة أريد أن أستريح... فلطالما كنت أكتب مستلهما أفكاري من ألاحظه في الواقع... بيد أن اليوم، و لأنه عيد ميلادي التاسع و العشرين، أحب أن أكتب بطريقة توليدية…( ربما هي أفضل كما استخمها سقراط في الحوار، لكنني أريد أن أجرب جوهرها في الكتابة، أقصد تقينة التساؤل المستمر…)
قبل أن أبدأ في تحرير أفكاري و كل هذا الجدال بين الواقع و الخيال، أحب أن أذكرك بأن لا تحكم على كتاباتي... لأنني بدأت الرحلة اكتشافا لمفهوم التعلم، و هذا بطبيعة تخصص دراستي و عملي...لكن و تراكم المقالات التي أكتب كل يوم، وجدت نفسي أكتب بحرية أو لأقل بتحرر... صرت أرى أن مشكلة التعلم هي أم المشكلات، خصوصا بالنسبة لشخص مثلي، مصمم بيداغوجي، كلما ابتعدت عن تقنية المهنية و اقتربت إلى ضفة التحليل و التفكير الفلسفي في ما هو التصميم البيداغوجي حقا؟ أشعر بنفسي في حاجة أكثر إلى أن أكتب في مواضيع مختلفة و أجرب قدرة التصميم البيداغوجي خصوصا في مجال الكتابة و التدوين...و أرى إلى أي حد يمكن أن نجد في آخر المطاف جوابا لسؤال التعلم. لذلك لا تحكم... فالكتابة تتعدى الأحكام و الحقيقة كما هو معروف في النقد، النص يمكله القارئ بالتأويل...و هذا ما يدفعني إلى أن أركز على أن الحكم ليس هو الهدف، ولكن تحرير الأفكار و مشاركة التمثلات و تحرير فلسفة التعلم من ضغط التقنية إلى مرونة فلسفية جادة و هادفة.
لماذا الخيال؟
كتبت مقالات كثيرة و نصوص أدبية عديدة في موضوع الخيال، مرة أقاربه برومانسية فأرى فيه كل تجليات الإبداع و الأحلام و إرادة الجمال، و مرة أنتقده و أرى فيه عكسا للواقع، بعيدا عن العقل و كيف يجب أن نتعامل مع الوجود، و أشرد في الواقع و تندثر كل أفكاري و أصير سائد في تمثلاتي، حتى يصبح الخيال في تلك الحالة مجرد كلمة فضفاضة تعيش في القاموس أكثر من أي مكان آخر.
و هذا أمر فيه من التناقض الكثير، لأنه في آخر المطاف، الإنسان حامل لهوية متعددة، فمن أنا؟ يتعدى الخيال... و يتعدى الواقع أيضا.... إنه سؤال تمثلات، و تأطير نفسي.
نداء إلى هيغل
( كان هيغل على وشك أن ينهي كتابة كتابه المعروف: فينمولوجيا الروح، قبل الفقرة الأخيرة، قرر أن يأخذ قسطا من الراحة، اتجه نحو النافذة و بدأ يتأمل في الطبيعة…بعد لحظات بدأ يسمع تغريدا فريدا لطير ألف أن يتحدث معه و هو يتأمل الطبيعة من نافذته…)
طائر الحكمة: هيغل… هل تسمع ندائي؟ هل أنت في عالم الروح؟ أم في عالم الطبيعة؟
هيغل: أنا أسمع نداءك دائما يا طائر الحكمة؟ فمن أرسل اليوم معك السؤال؟
طائر الحكمة: أرسلني إليك قراء جريدتي، نريد أن نعرف لماذا الخيال ليس له حدود؟
هيغل: الخيال، يا طائر الحكمة، هو تعبير للروح البشرية. إنه ليس محدودًا بالمادة، ولذلك لا يقيده الزمان والمكان بالطريقة التي تقيد الواقع المادي. الروح هي مظهر للحقيقة المطلقة، والخيال هو الطريقة التي يمكن للروح من خلالها أن تتجاوز قيود الواقع المحدد.
طائر الحكمة: لكن هل يمكن أن يصبح الخيال واقعًا؟
هيغل: الواقع والخيال ليسا معزولين. بل هما جانبان من نفس العملة. الواقع هو نتيجة للتطور الديالكتيكي للأفكار. الأفكار المتناقضة تتصارع وتدمج لتكون شكلًا جديدًا من الوعي. الخيال يمكن أن يكون الدافع لهذا التطور، فهو يشير إلى الاحتمالات التي لم تتحقق بعد.
طائر الحكمة: إذاً، الخيال هو مجرد احتمالات؟
هيغل: لا، إنه أكثر من ذلك. الخيال هو الحرية. هو قدرة الروح على رؤية ما وراء الحالة الحالية من الواقع، وتصور ما قد يكون عليه الواقع في المستقبل. ولكن يجب أن نتذكر أنه لا يمكن للواقع أن يتغير إلا من خلال العملية الديالكتيكية، حيث تتصارع الأفكار وتتكامل حتى تظهر في الواقع.
طائر الحكمة: إذن…الخيال هو قوة التغيير، والواقع هو نتيجة هذا التغيير.
هيغل: بالضبط، الخيال يقودنا إلى رؤية الاحتمالات، والديالكتيك تقودنا إلى تحقيقها.
هل يبدو جواب هيغل واضحا؟ أعتقد أن الفكرة من فلسفته التي حاول طائر الحكمة أن يقارب بها أسئلته، هي أن ما يجعل الخيال ليس له حدود، طبيعته، أي أنه لا يستلزم المادة ليكون..؟ أحببت هذه الفكرة لأنها متناسقة مع مفهوم الخيال من منظور فني… أي أن الخيال هو الذي يدفع الواقع إلى أن يسائل نفسه و يرى حدوده، وهكذا يتغير أو لنقل يتطور… و يبدو أن الأمر منطقي نوعا و لكن كيف، حقا، سيكون، رأي فنان في الموضوع؟ فلنقرأ مع الحوارية التي دارت بين طائر الحكمة و دافنتشي و نكمل التحليل.
نداء إلى دافنشي
طائر الحكمة: مرحباً دافنتشي، كيف حالك…أوه ألم تنه بعد رسمة الموناليزا؟
دافنتشي: أهلاً يا طائر الحكمة، دائما ما تحط على نافذتي لتستفزني؟ أم اليوم لديك سؤال جدي؟
طائر الحكمة: أنا لا أستفزك يا دافنتشي و لكنني أحب أفكارك… و اليوم أريد أن أعرف منك جوابا على هذا السؤال: لماذا الخيال ليس له حدود؟
دافنتشي: الخيال هو مرآة للطبيعة. مراة لا متناهية مليئة بالأنماط والتوازن، وكلما فهمنا أكثر هذه الأنماط، ازداد خيالنا. دائما ما أنظر إلى كيفية عمل الطبيعة، وأحاول تقليدها في رسوماتي وابتكاراتي. أحاول دائما ان أكون مرأة للطبيعة…
طائر الحكمة: تقصد أنك تتعلم الخيال أكثر من الواقع؟
دافنتشي: بالطبع، كلما حررت خيالي كلما استفدت من الطبيعة أكثر، و كلما أصبح لدي القدرة على جعل أفكاري واقعًا. الطبيعة هي المعلم الأعظم، والفهم الصحيح لها و لأنماطها هو ما يحول الخيال إلى حقيقة.
طائر الحكمة: إذن الخيال يعكس دائمًا الحقيقة؟
دافنتشي: ليس دائمًا. ولكن الخيال يمكن أن يكون مصدر إلهام. حتى إذا لم يكن كل ما نتخيله يمكن تحقيقه، فإن الفكرة نفسها قد تؤدي إلى اكتشافات وابتكارات جديدة. الطبيعة لها طرقها الخفية، ومهمتنا هي استكشافها وتقليدها، أن نكون مرأة لها…
طائر الحكمة: إذاً، الخيال هو بوابة لفهم الطبيعة وأسرارها.
دافنتشي: بالضبط، فمن خلال الخيال والملاحظة الدقيقة للطبيعة، يمكننا توسيع حدود معرفتنا، و هنا أقصد لكي أمنحك جوابا كاملا لسؤالك الأول، توسيع حدود خيالنا…فليس لأن الخيال ليس له حدود إذن لا داعي لاكتشاف حدود الخيال، فالخيال بداخلنا يمكن أن يكون محدودا حينما لا نستلهم أفكارنا بملاحظة الطبيعة.
طائر الحكمة: الخيال ليس له حدود و لكن طبيعة الخيال بداخلنا يمكن أن تكون لها حدود…
دافنتشي: ها أنت فهمت، و كما ترى أنهيت أيضا الموناليزا…فكيف تجدها..
طائر الحكمة: حتما هي خيالية…
(دافنتشي يضحك…)
أرى أن جواب دافنتشي في تناغم كامل مع ما حدثنا إياه هيغل قبل قليل، يعني التكامل بين المادة المحدودة أي الطبيعة و الروح اللامحدودة و هي العقل، و ربما هذا يفسر جيدا لماذا الخيال ليس له حدود ( في ذاته) و لكن في ذات الفرد الحامل للشخصية الثقافية و التحديات النفسية، يمكن أن يكون الخيال محدودا في طريقة تمثله و كيف يتفاعل مع الواقع… إنني أرى أن الواقع محدود و المجتمعات الإنسانية، في كل الأوقات و الحضارات قامت بتأريخ الحقيقة نفسها : واقعنا محدود. ولكن بالخيال يمكن أن نحرره أو نحرر أنفسنا منه… أفكار، فن، إبداع، موسيقى، علوم، ابتكارات، اختراعات، الكثير مما نراه في واقعنا اليوم كان خيالا في البداية…. و أرى أيضا أن كل ما في صفته اللاحدود هو خالد…يبقى إلى الأبد، ولكن اشعر نوعا ما بأننا نحتاج إلى نداء آخر، و أريد أن نقرأ حوارية بين طائر الحكمة و جبران خليل جبران، فلربما فلسفته ستقدم لنا جوابا وافيا للعقل و العاطفة بداخلنا.
نداء إلى جبران خليل جبران
(جبران على تل من تلال بشري، يرسم…حط بجانبه طائر أزرق صغير)
طائر الحكمة: يا جبران، إنني أتساءل، لماذا الخيال ليس له حدود؟
جبران: طائري الصغير و أخيرا جئت… بسؤال مباشر؟ حسنا… تذكر أن الخيال هو كالنهر الذي لا يعرف السدود. هو صدى لأغاني الروح التي لا تعرف الحدود. كما تطير يا صغيري بلا قيود في السماء، يطير الخيال في فضاء الوعي.
طائر الحكمة: ولكن، أليس هناك خيالات لا تتجسد في الواقع، مثل أغاني تموت على شفاه الفجر قبل أن تُسمع؟
جبران: حتى الأحلام التي لا تلامس أرض الواقع، تنبض في قلوبنا وتعطينا الأمل. ليس كل شجرة تثمر، ولكن حتى الأشجار التي لا تثمر تضفي جمالًا وظلًا على العالم. فالخيال هو ذلك الضوء الذي ينير دروب واقعنا المظلمة.
طائر الحكمة: فما الفائدة من خيال لا يأتي إلى الوجود، نريده أن ينير ظلمتنا لكنه مستحيل؟
جبران: ليس كل ما نتخيله يسعى لأن يصبح حقيقة. بعض الخيالات تعيش كرفقاء للروح، ترشدنا وتواسينا. هي كالأغاني التي نحتفظ بها في أعماقنا، لا لأننا نريد أن نغنيها للعالم، ولكن لأنها تحمل لنا ذكريات وأماني.
طائر الحكمة: إذاً، الخيال، سواء أتى إلى الوجود أم لا، هو جزء لا يتجزأ من الروح البشرية.
جبران: بالضبط، فهو نسيم يهب على الروح ويجعلها تعلو، وهو البريق الذي يشع في أعماق العيون، يُظهر لنا الجمال في كل شيء…
يبدو في جواب جبران خليل جبران الكثير من الانتماء لروح الكون بداخل الإنسان، للمحبة و للحلم و الأمل و الجمال في الحياة، و بناء على هذه النزعة الوجودية في فلسفة جبران، يمكن أن نرى بجلاء أن الخيال بدونه، ليس فقط حدود الواقع التي ستضيق ولكن حدود الجمال وتعريفنا للكمال يضيقان.
كلمات أخيرة
بلا شك، مع نهاية قراءتك لهذه الحواريات حكمت بطريقة أو بأخرى على أن ما صغته اليوم في هذا المقالة كان نابعا من قدرتي على الخيال؟ صحيح؟
في نظرك إلى أي حد يمكن أن يكون الخيال طريقة لتسهيل عملية إدماجنا في الواقع؟ طبعا لن أقوم بنداءات أخرى فهذه آخر الكلمات…و لكن اريدك أن تفكر في هذا السؤال و ربما تشاركني جوابك؟ فهذه المقالة اليوم لم يكن سببها فقط إلهام خاص بعيد ميلادي التاسع و العشرين ... وحبي لتجريب كل ما هو مختلف و لكن ايضا لأمنحك لحظة، ربما ستحب فيها أنت أيضا أن تجرب قدرتك في الخيال…
ففي نهاية المطاف، هيغل، دافنتشي و جبران، كلهم يتفقون على أن الخيال يلا حدود، صحيح أن كل واحد منهم و كيف قام بتفسير هذه الحقيقة و تحليل علاقتها بالواقع المحدود…و هنا الجوهر، أن الخيال ليس المهم فيه أن ليس له حدود، المهم هو كيف يصبح الخيال ممكنا؟