ماذا ستفضل: أن تسمع المذياع على تل أم أن تندمج في عالم موازي عبر الميتافرس؟

 


كلمات افتتاحية

كان أول ما تعرفت عليه في عالم تكنولوجيا التواصل هو المذياع، و كان ذلك في مرحلة الطفولة ما بين سنة 1994 و 1999، أتذكر أن كل فرد من أفراد عائلتي، خصوصا الكبار في السن، كان له مذياع خاص به و أحيانا مذياع كبير الحجم دائما ما يوضع في مكان يستقطب ترددات الراديو جيدا، نجتمع حوله في الليل لنسمع الأخبار او نتابع سهرة ثقافية، لقد كان المذياع قلب المنزل.

الحقيقة أن هذا الصباح، وأنا أتمشى نحو العمل، شعرت بالملل، قمت بتشغيل الراديو في هاتفي وبدأت الاستماع، أتمشى و أستمع حتى دخلت في شرود فريد، شعرت بالحنين للتل الذي كنا نجلس عليه أنا وأفراد عائلتي لنسمع أغاني أمازيغية قديمة و في الوقت نفسه شعرت بالفضول إلى عالم جديد يكتسح العالم أكثر من التلفاز و من الأنترنت و الويب 2، إنها عروس القرن 21: الميتافرس.

الراديو: متعة الإنصات 

لا أدري كيف كان يفكر جيل البشر قبل اختراع الراديو، ولكن في نظري، يوم اختراعه، كان البشر آنذاك في حيرة واندهاش، فقد صار بإمكان أي واحد في أي مكان أن يستمع إلى شيء من الصعب أن يسمع له لولا سحر الراديو... الحقيقة أن هذا الاختراع حافظ على تأثيره حتى يومنا هذا.  و يمكن أن أشرح سبب هذا بتصميم فكرة الراديو بحد ذاتها، فما دام الإنسان يحب أن يسمع، فسيبقى الراديو رفيقا له في كل أبعاده الحضارية و تطوره التكنولوجي... اليوم، لا يمكن أن نحصر إذاعات الراديو في رقم محدد. هنالك الكثير، في كل مكان... هنالك شيء ما لتسمع له... في الهواء ترددا. ينتظرك فقط أن تقوم بإشغال مذياعك. إنها ترددات قيمة وغالية جدا. خصوصا عند الناس الذين يعيشون في مناطق نائية بعيدة عن مركز المدن المعروفة بأجهزتها التقنية التي تتيح لأفراد المدن أن يزوروا السينما، و المسرح و(... هنالك الكثير من الفوائد حينما يتعلق الأمر بحياة المدينة).

الراديو و سؤال العزلة 

صحيح أن ثقافة الراديو بدأت في الاستماع الجماعي. خصوصا في القرى، ولكن إن لاحظت قليلا تطور الحياة وتأثيرها على الأفراد يمكن أن تلاحظ أن الراديو صار رفيقا للذين لا صحبة لهم، يعيشون وحيدين أو يتنقلون لوحدهم و في الراديو يجدون الملجأ الذي يشعرهم بالانتماء و أيضا أن يبقى على اتصال بكل ما يحدث و يجري حولهم... أعتقد أن هنالك من المهنيين اليوم خصوصا الذين يعملون في مجال النقل و الرحلات، و أيضا الذين يعملون في الحماية و المراقبة و ربما أيضا في الصيد و الأعمال الجبلية...سيكون الراديو رفيقا لهم... و لكن كيف يمكن أن يكون المذياع نفسه رفيقا للشباب و ربما الأطفال خصوصا؟ 

التربية على الإنصات 

ربما الجواب يكمن في المقاربة التي تستخدم في تربية ثقافة الراديو للأطفال، على مستوى العائلة و أيضا على مستوى المدرسة... أتذكر جيدا حينما قررت سنة 2011 أن أحدث نادي في ثانوية ابن البناء المراكشي ببني تدجيت تحت إشراف الإدارة و الأساتذة، خاص بالإذاعة المدرسية... كانت عندي 10 دقائق في الصباح و أخرى بعد الزوال لأتحدث فيها في مواضيع أو أستضيف تلميذا أو طالبا لنتحدث في موضوع ما... في نظري ثقافة المذياع تتعدى متعة الاستماع و أيضا سؤال العزلة... إنها نوعا ما طريقة لتنشيط الفكر الجماعي و أيضا حث الأفراد على القيام بأمور أكثر إبداعية....

في ماذا يفيد الإنصات للراديو اليوم؟

أمام ما يقدمه التلفاز من جودة في الصورة و الصوت و الكثير من الإثارة السمعية البصرية، يصعب تقديم سبب قوي يجعلك تختار المذياع قبل التلفاز أو الأنترنت، لكن السر ليس في تقديم سبب قوي، ولكن في فهم معنى الإنصات للمذياع، ففي ذلك يمكن أن نكتشف لماذا الإنصات لموجات الراديو أمر مفيد.

بداية الاستماع للراديو يحتاج التركيز، بيد أن التلفاز فكرته كلها مبنية على الإثارة البصرية، مما يمكن أن يجعلك تستقبل معلومات بطريقة لا شعورية أكثر منها شعورية، على عكس الراديو يدفعك للتفكير و في الوقت نفسه إلى التحليل، و جرب أن تسمع للراديو لمدة نصف ساعة و إلى التفاز المدة نفسها... و مع نهاية اليوم و أنت مستلقي... حاول أن تتذكر ماذا تبقى في خيالك من تجربة التلفاز و تجربة الراديو... أحدس أنك ستتذكر أمورا مفيدة بخصوص تجربة الإنصات للمذياع...ربما التلفاز ما بقيَ منه ليس إلا صورا مشتتة، لحظات...رسخت في عقلك و لكن ليس ها معنى...

المواضيع عبر المذياع دائما تكون ملائمة للإنصات، بطريقة نشيطة و هادفة، الحوارات و الموسيقى و المسابقات و الكثير من الأنشطة التي تطور قدراتك اللغوية من جهة و من جهة أخرى ثقافتك في مواضيع عديدة...أتذكر تجربتي مع إذاعات الراديو باللغة الفرنسية، كنت دائما أتعلم شيئا حتى حينما يكون الموضوع المركزي لا يثير اهتمامي... ففي نظري، ما يجعل المذياع اختيارا أفضل في الإنصات، هو اهتمامه التقني و الفني بتلك اللحظة الجميلة و انت مستلقي على أريكة أو تتمشى أو حتى و أنت في سيارتك أو على دراجتك...المهم أنك تفعل شيئا ما و تسمع... إن المذياع رفيق للتعلم.

الميتافرس: حكاية أخرى

و أنا أتحدث أعلاه عن الراديو قيمته و جماله، ربما كنت تشعر بالحنين إلى الماضي، ربما تذكرت صورا قديمة لمذياع كان عندكم في المنزل، أو منزل جدك أو شخص كان معروفا بتراث الماضي...بيد أن الحكاية تتغير في هذه اللحظة، لأننا سنقفز معا من عالم الحنين إلى أمواج المذياع، تعلم اللغة و الحوار...إلى عالم حيث المستحيل قرر أن يخرج من قوقعته و يتمشى مع الممكن... أتحدث عن الميتافرس و عالم الأبعاد الموازية للواقع، فاليوم صار ممكنا أن تتعدى الواقع تماما، تصنع أفاتار(avatar) خاص بك و و بضغطة زر و بعد الإعدادات في حاسوبك و وسائل الميتافرس، يمكن أن تجد نفسك في عالم موازي تتمشى دون أن تفعل ذلك حقا...ترى ما لم تره من قبل... و تسافر إلى أماكن لم تزرها من قبل أو ربما أماكن ليست موجودة في الواقع، كلها من وحي الخيال... و ربما الميتافرس، في هذا السياق، يضعنا أمام فرضية قوية :أنها ستقضي على الراديو؟ على كل شيء؟ على التمثل الكلاسيكي الذي نحمله للحياة؟ حياة التل و رؤية شروق الشمس؟ حياة المجموعة حول مذياع قديم يستمعون إلى حوار ثقافي؟ أو إلى أب يلعب مع طفله أمام باب المنزل؟ أو... لا ادري، كل صورة كلاسيكية يمكن أن تجول في خاطرك حول الحياة النفسية و الاجتماعية التي نعرفها جميعا نحن الكائنات البشرية. 

الميتافرس: هل انتهت متعة الحنين إلى الماضي؟

لم أختر أن أقارن بين قيمة المذياع و تحدي الميتافرس(métavers)  هكذا عبثا، الحقيقة أن اليوم، عالمنا، أراه تائها، متهورا في كل شيء... نحب أن نجرب المجهول و هذا من طبيعتنا و في فطرتنا و لا يمكن أن أثبت أمرا يعاكس هذه الحقيقة، بيد أن هنالك نمط حياة مخفي وراء كل قرار أو اختيار... لا أعرف هل سبق أن جربت الميتافرس؟ ولكن إن كنت من الجيل الذي لعب ألعاب الفيديو فحتما أنت لديك مستوى في الميتافرس، كل ما تبقى هو التجربة الكاملة... فكيف ستشعر بأنك تعيش في عالم كله رقمي؟ هل سيتعب عقلك؟ كيف سيتغير تمثلك للواقع؟ كيف ستستخدم الميتافرس لتعلم اللغة؟ للإنصات؟ لتعلم مفاهيم جديدة ربما ثقافية تقنية أو أكاديمية؟ أم سيكون الأمر فقط كألعاب الفيديو؟ حرب المتعة و الدوبامين؟ البحث عن تحقيق الفوز؟ لا أدري... إنه عالم غريب يفتح أبوابه علينا... و من منا سيكون مع المذياع في وقت الميتافرس؟

كلمات أخيرة

ماذا اخترت؟ المذياع أم الميتافرس؟ على أي كيف ما كانت ردة فعلك لهذا المقال... كيفما كان جوابك أواختيارك... تذكر أن أهم قيمة في حياتنا هي قيمة التعلم الهادف، فإن كان المذياع قد قدم دليلا قاطعا على أنه تجربة تعلم ناجحة عبر الإنصات، فكيف يمكن للميتافرس أن يقدم لنا جوابا واضحا حول قيمة التعلم؟ و إن كان المذياع لم يثبت أي أضرار على مستوى التوازن النفسي عند المستمعين لأمواجه الأوفياء؟ فكيف يمكن للميتافرس أن يثبت لمستخدميه أن ليس له أضرار نفسية على توازنهم النفسي؟