رسائل كارل جبران: رحلة الجنوب الشرقي

أطفال في جبال الأطلس يلعبون

لن أنكر هذا الكم الهائل من الأحلام التي تخترق فكري و أنا أرمي بأنظاري خارج نافذة المقعد الذي يحملني إلى مدينة الدار البيضاء.  يا لسخرية المكان و يا لهذا العبث الغريب الذي لا يدفعني إلى رؤية قيمة الأشياء إلا حينما أرحل عنها و أبتعد.

كم يوما مر و أنا في هذه البلدة الصغيرة، بني تدجيت، شهرا كاملا؟ كنت أشعر طيلة الوقت بالضجر و الملل،  كل ما أنتظره هو متى أرحل، أذهب بعيدا عن التراثي، التقليدي و القديم،  بحثا عن الجديد و الحديث.

إن الحافلة التي تحملني الآن تحمل كل معاناتي،  كل العواصف القوية التي تهب بداخلي،  وإن  ما يحرك هذه الحافلة الأصيلة بعيدا و بهذه السرعة الفائقة  ليس سائقها و لا محركها،  بل تناقضاتي، حربي و هذا الصراع الأزلي، إنه السبب وراء هذا التسارع نحو المدن الكبيرة التي لا تعرف شيئا عني و لا أعرف شيئا عنها،  بيد أن فيها المستقبل  والجدوى، و أحيانا المعنى. 

بعض العبرات مترددة،  أتذرف نفسها أم تبقى على عتبة العيون؟  إنني أجاري الزمن،  فبعد غروب الشمس سيعم الظلام في الحافلة و لن أستطيع رؤية بياض الأوراق فأكتب، و إنني أكتب الآن كأنني أكتب لآخر مرة في حياتي، كأنني أتوقع حادثة سير مميتة بعد مسافة.   و لمن أكتب؟ من أراسل؟ و من سيقرأ كل هذه الصفحات؟ أ أنا المستقبلي؟ أ أحد من رفاقي ؟ أ غريب ما؟ أم لا أحد؟

إن الطبيعة خلابة هنا في صحاري الجنوب الشرقي، رغم أن الألوان لا تتعدى الأصفر و البني الفاتح، لكن هنا بُعدٌ من الحياة يتسم بالصرامة،  القوة و القدرة على تحمل المصاعب، فهذا الجو الصحراوي القاحل يحمل جمالا خفيا لا يمكن إداركه إلا بعد التأمل العميق في معنى : الأفق البعيد الذي، و أنت ترمي فيه أنظارك،  لا تفرق بين نهاية الأرض و السماء.

أريد أن أعود إلى هنا مرة أخرى، ألتقط صورا لمختلف الناس الذين يعيشون بين هذه التلال القاحلة، خصوصا كبار السن الذين صاروا يتمشون على هذه الأرض جِمَالا تحمل على ظهورها المنحنية الكثير من الصبر و المقاومة.

رأيت مُسنا عبر النافذة، يتأمل اتجاه مسير الحافلة، شعرت بوجوده لكنه لم يكترث، فقد كان يتأمل نهايته أو خلوده في أفق هذه الصحراء. رأيت طفلان يلعبان، يجريان و يمرحان، حينما سمعا هدير الحافلة، التفتا نحونا و أشارا تجاهنا بإشارات تجمع بين الترحاب و الوداع، في الوقت نفسه، رأيت شابة تداعب هاتفها بحثا عن إشارات الأنترنت و رأيت الكثير من الفراغ الذي ولدت فيه، ترعرعت فيه و أنا الآن أهرب منه و حتما سأعود إليه، مع اقتراب عطلة عيد الأضحى.

في عطلة عيد الأضحى، و ككل الأعياد الأخرى، يصبح فراغ هذه المناطق تيارا مغناطيسيا يتعدى البحار و المحيطات، يجذبنا جميعا، نحن الهاربون إلى المدن الكبيرة، لنعود أنفا عنا و نرى من أين ننحدر، بل و  لنتذكر الحقيقة التالية: أن الوطن  بداخلنا يذهب معنا حيثما ذهبنا، فهو ليس مكانا بل شعورا، ربما لا نشعر به حينما تحط أقدامنا على كتلان هذه الرمال، لكنه يستيقظ صوتا قويا بداخلنا بدءا من أول لحظة ابتعادنا.

ليس من عادتي أن اكتب في الحافلة أو في وقت السفر، لكن في هذا اليوم شعرت بمسؤولية الانتماء لهذا الوطن، و إذ أنا أبتعد عنه الآن فلابد أن أجعله دائما أقرب مني، لابد أن اخبر العالم عنه،  لابد أن احكي هذه القصة لجميع الأدباء، الشعراء، الفلاسفة و العلماء، لجميع التجار،  رجال الأعمال و الأغنياء، لجميع المتشردين، اللصوص و الهاربين من العدالة، لجميع الفقراء، لجميع التائهين، للعالم أجمع، لابد أن أبوح: أنا أنحدر من صحراء بالجنوب الشرقي، لا هي من الأرض ولا هي من السماء.

ك.ج