يوميات: القهوة و الرفيق

لا أتذكر متى بالضبط أصبحت رفيقا، لكنني أتذكر متى التقيت بالرفيق الذي جعلني أفهم أمورا في السياسة والاقتصاد لم تكن عندي دراية بها من قبل.
كان ذلك قبل سنوات، أيام المجاعة الفكرية، حينما كانت عواطفي تسافر بي من فندق لآخر لأكتشف الليل، المقاهي وشوارع مدن المغرب، ففي صباح من ربيع سنة 2015، ارتديت معطفي، نظفت حذائي، وضعت كتبا في محفظتي دون أن أنسى حاسوبي واتجهت للمحطة الطرقية بالقامرة ـ الرباط، حجزت مقعدا في حافلة اليمامة متجها إلى مدينة الرشيدية.  وصلت في صباح اليوم التالي، كان الجو مبكرا، الشمس لم تشرق بعد، بحثت عن أقرب مقهى، خصوصا تلك المقاهي التي تحتفل بفيروز أو أم كلثوم غناءهما قبل ضوضاء النهار، وفعلا وجدتها، جلست في ركن قرب النافذة، طلبت فنجان قهوة من النادل وبدأت كتابة ما يجول في خاطري في المذكرة. حل النهار، استيقظ الرفيق، تواصلنا ثم التقينا وعشنا يومنا سعداءً، فقد كان ذلك اليوم هو أول يوم نلتقي فيه غرباءً بعيدا عن القرية التي ولدنا في أحضانها وكبرنا أصدقاءً.
تلك السعادة التي عشناها لم ترتبط معانيها بالثقافة وحسن الضيافة والخطاب الاجتماعي السائد بين الأصحاب في المجتمع المغربي، بل كانت مرتبطة بشكل وطيد مع جو النقد، النقاش وتحليل الظواهر الاجتماعية، جو من الفكر جعلني أغذي مجاعتي الفكرية، جعلني أصبح مع المدة رفيقا وشابا رومنسيا في آن. تلك السعادة بيننا نمت، عاشت واستمرت، لا زالت تنمو، تعيش وتستمر.
مساء هذا اليوم التقينا في مقهى لقاءً يفوق المئة مرة. لم نناقش شيئا يخص الاقتصاد والسياسة أو العلم والفلسفة، كنت أستمتع بالاستماع لما عاشه من تجارب في القرية، فاليوم عاد منها. حكى لي أشياء غريبة، جعلتني بدون تردد أفتح مذكرتي وأكتب.. وفي الآتي ما لي حكىَ:
" ...في قريتنا، هنالك علاقة وطيدة بين التمثل الجماعي للوظيفة العمومية، خصوصا مهنة التعليم، وتغذية شخصية الشاب الذي نجح في مباراة التعليم، الشاب الذي أصبح معلما بدل طالب تتعلق عليه الأحلام كأنها آخر أحلام الإنسان في هذه الحياة... الشاب الذي أصبح فجأة رجلا، ذا قيمة وهيبة، محترما، ومُعتبرا حق الاعتبار.... لكن فقط لفترة وجيزة، تماما كأيام العرس، حيث الزوجان ملكُ وملكةْ ليوم أو يومان، وبعدها يصبحان مجرد زوجين كأي زوج وزوجة في عالم الأزواج. بعيدا عن قريتنا ببضع ساعات، القبائل تذبح أمام الحجرة الدراسية خروفا أو نعجة احتفاء بالمعلم الجديد الذي يعبر عن بركة الله، يصبح، دون علمه، وليا من أولياء الله والمدرسة تصبح ذلك اليوم بيتا من بيوت الله..."
ما حكى لي ليس غريبا عما أعرفه من أعراف وتقاليد وعادات في جنوب المغرب الشرقي، لكن ما أبهرني هو خطابه، كان يتحدث كطفل للتو عاد للبيت، يحكي لأمه مغامرة نهاره، تلك الطريقة التي كان بها يتحدث ويعبر، جعلتني أرى فيه الرفيق الذي يُخفي في باطنه نضالا ومعاناة من أجل التأقلم مع الواقع القاسي وفي الآن جعلتني أرى فيه طفلا صغيرا مرتاحا غير آبه بما يجري على نهر ثقافة الجنوب الشرقي، مستمتعا بذلك النمط من الحياة الذي يذكره بصباه: أياما كان فيها يرعى خياله بين السهول والهضاب... أياما كنت فيها أرعى خيالي بين السهول و الهضاب... ذلك النمط من الحياة الذي يذكرني بصباي، بطفل داخلي أصبح غريبا عني، بعيدا مني، شريدا يبحث عن متعة اختفت منذ سنوات.

ك.ج