ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الخامسة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ بارمنيدس)

 بارمنيدس: حقيقة اللاشيء

Parmenides : The reality of Nothing 
     
كتب أنتوني جوتليب: " كان ظهور بارمنيدس أشبه بثعبان يلج جنة الفلسفة اليونانية، و لكنه لم يأت ليهب المعرفة، بل جاء مهددا بانتزاعها، فحجج بارمنيدس قوضت بنيان التفسيرات السابقة التي ناقشت مسألة الطبيعة." [1]
يعبر هذا المقتبس على القوة الجديدة لفكر فلسفي جديد جاء به بارمنيدس، هذا الفيلسوف الشاعر[2]، الذي حاول الشك بطريقة أو بأخرى في كل ما بناه الفلاسفة السابقون من معرفة و حقائق حول الطبيعة الوجود.
Parmenides c. 515 BC
انتمى بارمنيدس للمدرسة الإيلية[3] التي كانت كأي مدرسة في تلك الحقبة فضاء للتتلمذ و التعليم في آن، و يقال أن بارمنيدس كان تلميذا للفيلسوف كزينوفانيس Xenophanes و كان بعد ذلك معلما و صديقا لتلميذه زينون.
يمكننا أن نبدأ الحديث عن فكر هذا الفيلسوف انطلاقا من الطرح التالي:
إذا كان الفلاسفة السابقون ( الملطيون و هرقليطس خصوصا)  قد حاولوا البرهنة على كيفية تطور الكون، فإن بارمنيدس قد حاول أن يبرهن أن الكون لم يتطور بالمرة.
و إذا كان الفلاسفة السابقون قد حاولوا البرهنة على ظاهرة الحركة و التغير في الكون فإن بارمنيدس حاول البرهنة على أن لا وجود لما يسمى بالحركة أو التغير في الكون أصلا.
يتضح لنا جليا الآن لماذا وصف أنتوني هذا الفيلسوف بالأفعى التي لجت جنة الفلسفة اليونانية، إنه يحاول بناء طرح جديد معاكس تماما للسائد من النظريات، فكيف استطاع بارمنيدس أن يقول بأن الكون لم يتطور بالمرة بل و بإن لا وجود فيه لحركة أو تغيير؟
إن هذا السؤال يذهب بنا مباشرة إلى مفهوم جوهري في فلسفة بارمنيدس، إنه مفهوم اللاشيء.
يقول أنتوني في هذا الصدد : " لقد بدأ بارمنيدس بفكرة بسيطة حول الفكر و اللغة، ثم حول هذه الفكرة إلى فلسفة كاملة، لقد قال  أنه ليس بوسع أي إنسان ان يفكر في شيء غير موجود أو يتحدث عنه، فهذا من وجهة نظره يعادل الحديث عن اللاشيء، و الشخص الذي يتحدث عن اللاشيء أو يفكر فيه، لن يستطيع أن يتحدث بشكل سوي بأي حال من الأحوال، و لذلك علينا أن نمحو الأشياء غير الموجودة أو اللاشيء تماما من فكرنا." [4]
و يكمل أنتوني شرحَ هذه الفكرة قائلا: "... و يوضح ذلك (أي بارمنيدس) على سبيل المثال أنه لا سبيل لنا للحديث عن شيء ما قد خرج للوجود، إذ يتضمن ذلك أنه لم يكن موجودا من قبل، و هذا ضرب من المستحيل، لأنه لا يمكن لنا أن نتحدث عن شيء غير موجود، و بالمثل لا سبيل لنا للحديث عن شيء سينقطع يوما عن الوجود، لأن هذا ينطوي على الفكرة المستحيل أنه سيأتي عليه يوم يكون فيه لا وجود له، و لذلك فلا ينبغي أن ندعي أن هنالك شيئا سيأتي يوما إلى الوجود أو ينقطع عنه، و لذلك فكل الأشياء خالدة." [5]
نفهم من هذا، بعبارة بسيطة، أن اللاشيء ( اللاموجود) هو حقا غير موجود و أن الوجود هو فعلا موجود، و أي شيء نحاول أن نتصوره أو نفكر فيه خارج كل ما هو موجود فهو مستحيل، إن الموجود هو كل شيء و أي شيء، إنه خالد و مطلق.
إن الموجود كينونة واحدة، أو كما وصفه بارمنيدس قائلا: " إن الموجود يتسم بالكمال و التمام و انعدام المثيل."
و الطريقة التي توصل بها بارمنيدس إلى هذا الاستنتاج تعزى إلى مفارقة اللغة و الفكرة، التي يُعتقد بأنه كان من أوائل الفلاسفة الذين تطرقوا لها، يقول أنتوني: " لقد توصل بارمنيدس إلى أن عملية التفكير تتضمن اتصالا مباشرا مع الشيء الذي يفكر فيه المرء، و شبه عملية التفكير باللمس رغم عدم تصريحه بذلك، فكما يستحيل لمس شيء غير موجود، فإن التفكير فيه أو الحديث عنه أمر مستحيل.." [6]
لقد انفتح بارمنيدس على إشكالية العقل و العالم الخارجي، ما نفهمه اليوم بإشكالية التمثل representation أو Perception، أو سؤال : كيف يتمثل العقل الواقع؟ كيف يتواصل معه؟
و في هذا الصدد رأى بارمنيدس أن الطريقة إلى المعرفة أو بناء المعرفة تكون على شاكلتين:
شاكلة العقلة
 معرفة حقيقية كاملة ثابتة لا تتغير.
شاكلة الحواس
معرفة خادعة منبعها يكون أيضا في الأعراف و التقاليد...
وهكذا يتضح لنا جليا كم كان بارمنيدس واثقا بالعقل، باعتباره منبع الحقيقة، بل أيضا الطريقة الوحيدة لاكتشاف أو الفصل بين كل ما هو موجود و ما هو غير موجود.
إن بارمنيدس حاول أن يبرهن على أن ما يجعل الوجود موجودا هو أنه غير قابل لأن يكون غير موجود، و هكذا كان مخالفا لكل الطروحات و النظريات التي سادت في تلك المرحلة، لقد شق طريقا جديدا للمعرفة كان فيها تلميذه زينون zeno of Elea  بارمنيدس الثاني.
و لقد أشار أنتوني إلى هذا قائلا : " و من أفضل المحاولات التي قام بها بارمنيدس، وربما المحاولة الوحيدة التي يمكن أن نقتفي أثرها، هي تلك التي نجدها في أعمال تلميذه زينون." [7]



[1] أنتوني جوتليب،حلم العقل، ص 78
[2]  عبر بارمنيدس على فلسفته بالشعر السداسي في قصيدته في الطبيعة التي تتكون من أجزاء أهمها: طريق الحق the way of truth.
[3]  المدرسة الإيلية Eleatics  اختلفت بشكل كامل عن طروحات المدرسة الأيونية، حيث حاولت البرهنة على أن الكون لا يتميز أبدا بالتغير و الحركة و لا حتى التعدد.
[4]  نفس المرجع، ص81
[5] نفس المرجع، ص81
[6]  نفس المرجع، ص 84.
[7] نفس المرجع، ص 90.

كارل جبران

أكثر التدوينات قراءة

مفهوم الجسد عند ديكارت

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة العاشرة و الأخيرة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ السفسطائيون)

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثامنة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ أناكساغوراس)

كانط في المستقبل و نصوص أخرى

ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثانية ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ فلاسفة الطبيعة)

ينمو التفكير في عقل الإنسان ( المقالة الأولى " نحوَ فلاسفة ما قبل سقراط")