ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الرابعة( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ هرقليطس)
Heraclitus ق.م 540/
480 ق.م
كان هرقليطس فيلسوفا مختلفا عن سابقيه و
معاصريه في آن، لأنه بدلَ أن يبحث في سؤال الطبيعة و الكون كعالم خارجي مستقل،
اختار البحث عن نفسه انطلاقا من نفسه كعاَلَمٍ داخلي، مؤمنا أن في أغوار الذات
توجد أسرار الكون و الطبيعة. كان
رجلا غامضا في خطابه كأنه يقدم ألغازا و يحيكها، عُرف بصانع الحجج، و صَنع من نفسه
نموذجا جديدا لشخص الفيلسوف الساخر. و
يمكن أن نلاحظ هذا انطلاقا من بعض أقواله:
¬ " إن الطريقين الصاعد و الهابط ليسا سوى
طريقا واحدا."
¬ " إن الحي و الميت و النائم و اليقظ و
الصغير و الكبير... كلها أشكال لشيء واحد."
¬ " إن المرض هو الذي يجعل الصحة أمرا جميلا
فيه من الخير الكثير، و الجوع هو ما يسبب التخمة، و التعب يمهد طريقا للراحة..."
¬ " إن البحر هو أكثر منابع الماء نقاء و
أكثرها تلوثا، فهو للأسماك صالح للشرب و حافظ للحياة، بينما لدى الناس غير مستساغ
الشرب و يوردهم المهالك."
كتبَ جوتليب: "..وقد جاء هرقليطس ليعرض
جانبا آخر من الصورة التقليدية الساخرة عن الفيلسوف ألا و هو جانب الغموض، فقد استحق
لقب صانع الحجج عن جدارة."[1]
ويضيف جوتليب: " لم يكن هرقليطس كأي من
سابقيه، فالاهتمامات التي شغلته و المواقف التي تبناها جعلته بمنأى عن أهل ملطية و
أتباع فيتاغورس، فعلى عكس فيتاغورس الذي سماه (أمير الدجالين)، لم ينشئ هرقليطس
مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته، بل إنه لم يتبع أيا من المدارس التي كانت قائمة
آنذاك."[2]
لقد خرج هرقليطس للبحث عن نفسه، بمعنى أن هذه
الرحلة الفكرية كانت غايتها فهمَ النفس البشرية، أو ما نطلق عليه اليوم بالشخصية،
حيث رأى أن هذه الأخيرة تلعب دورا في عملية التفكير و الإدراك لدى الإنسان.
إن النفس أو الروح لدى هرقليطس ترتبط
بالأحلام و بالمشاعر بل إنها تؤثر في قدر و مصير الإنسان. يقول جوتليب في هذا الصدد: " اعتبر
هرقليطس الروح كيانا عاقلا يفكر، و لذلك فهو يرى أن ثمة تشابها قويا بين الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح و المبادئ المسيرة
للطبيعة، فكما ينظر للروح على انها الدافع وراء أفعال الإنسان و القوة المحركة
لها، فإن الروح التي تهيمن على العالم أيضا هي المبدأ الحاكم له و مصدر كل ما نراه
فيه من أحداث و ظواهر." [3]
يمكن عموما أن نلخص أفكار هذا الفيلسوف في
العبارة التالية:
" إن الأشياء جميعها تنشأ بفعل
الصراع بينها و كل الأشياء شيء واحد في الوقت نفسه."
يمكن أن نستخرج من هذه العبارة فكرتين
أساسيتين و هما كالآتي:
الأشياء عند هرقليطس هي مرادف لكلمة "
أضداد"
|
|
1.
فكرة
الصراع و الكفاح بين الأضداد.
( إن الأشياء جميعها تنشأ
بفعل الصراع بينها فخلف خلف الانسجام و التناغم هنالك صراع دائم بين الأشياء أو
الأضداد.)
|
2.
فكرة أن
الأضداد ما هي إلا نسيج لشيء واحد.
( الأشياء هي الشيء نفسه
في الوقت ذاته " إن الأشياء كلها واحدة".)
|
و يشرح جوتليب مفهوم الضد قائلا: " و
يمثل الضد عند هرقليطس الغريم أو الخصم، و بذلك فإن الموسيقى تنطوي على صراع
داخلها لأنها تستخدم كلا من الأصوات العالية و المنخفضة التي تقع على نهايات
مختلفة في السلم الموسيقى."[4]
فكرة الأَضداد هاته تأخذنا بشكل أو بآخر لفهم
جوهر سيرورة الطبيعة حسب هرقليطس الذي يكمن في الحركة و التغيير، و المثال الأوضح
لهذا هو تشبيه النهر المشهور الذي قدمه الفيلسوف نفسه: " إذا نزل الإنسان في
النهر ذاته مرتين فسيجد ماء جديدا في كل مرة".
إن مبدأ التغير و الحركة عند هرقليطس يتعدى
الطبيعة إلى الكون بصفة عامة، لكن أصل هذا التغير و الحركة هو النار.
يشرح جوتليب الفكرة نفسها قائلا: "
فالكون عنده( أي هرقليطس) نار أبدية لا تنطفأ، بل تشتعل بمقدار و تخبو بمقدار، بل
قال أن جميع الأشياء تعد معادلة للنار، تماما كما نحصل على البضائع عن طريق الذهب
و نحصل على الذهب عن طريق بيع البضائع."[5]
بعبارة أخرى، إن كل شيء يتحول بصفة دورية إلى
نار في سلسلة متعاقبة من الحرائق الكونية، أي أن النار تدخل في تكوين جميع الأشياء
من حولنا، إن النار هي القوة المنظمة التي تحفظ التوازن بين العناصر. قال
هرقليطس: " يولد الهواء حال موت
النار، و تولد المياه بموت الهواء".
يمكن أن نعيد صياغة كل أفكار هرقليطس في
ثلاثة مبادئ، كما الآتي:
المبدأ الأول
|
كل شيء مؤلف من الأضداد ولهذا فهو
خاضع للتوتر الداخلي ( حالة صراع، كفاح أو حرب)، و الأضداد في آخر المطاف تنتمي
لبعضها البعض.
|
المبدأ الثاني
|
كل شيء في سيلان دائم ( بمعنى في
حركة و تغير دائمين).
|
المبدأ الثالث
|
الكون واحد للجميع و لم يصنعه أو يخلقه أحد، ولد من
نار وسينحل من جديد إلى نار، في عصور متوالية على التبادل، وهكذا إلى الأبد.
|
[1] أنتوني جوتليب، حلم العقل، ص 64.
[2] نفس المرجع، ص 65.
[3] نفس المرجع، ص 70.
[4] نفس المرجع، ص 69.