ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة الثالثة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ الفيتاغوريون)
الفيتاغوريون:
فكرة العالم المتناغم.
استمر
الفكر الفلسفي بحلة جديدة مع فيتاغورس (570*495 ق.م) مؤسس المذهب/ الحركة الفيتاغورسية. لقد كان الاهتمام
بهذا الرجل بارزا بعد موته، مستمرا حتى العصور الحديثة، بل حتى أيامنا هذه، حيث
يمكن أن نشير إلى جانبين أساسيين في هذا الاهتمام:
¬ جانب
علمي/فيزيائي: علم الصوت.
![]() |
Pythagoras |
¬ جانب روحاني:
علم التنجيم.
وهذا الاهتمام المتناقض في
أبعاده هو ما يدفعنا إلى فهم شخص فيتاغورس و المذهب الفيتاغورسي بصفة عامة.
كتب أنتوني جوتليب في هذا
الصدد: "... بالنسبة لفيتاغورس نفسه، يمكننا القول أنه كان يؤمن بالتناسخ و
إنه كان يهتم بالأرقام و لو قليلا، و ما أثير عنه غير ذلك فليس إلا تخمينات، و
سنزعم أيضا أن الفيتاغورسيين جميعهم نسيج واحد، لا فرق بينهم، رغم أن بعضهم في
حقيقة الأمر كان مهتما بالأمور العلمية و العقلية بينما انغمس آخرون في شؤون
المحرمات و الأقوال الغامضة و الإرشادات الخرافية للحياة التي شكلت الجانب الديني
من المنهج الفيتاغورسي.." [1]
لقد اهتم الفيتاغورسيون
بالرياضيات، لأنها تمثل طريق الخلاص الروحي: " إذا أردت أن تحيا إلى الأبد
فادرس الرياضيات". لكن ماذا نقصد بالرياضيات في المنهج الفيتاغورسي؟
الحديث عن الرياضيات في
الفيتاغورسية ليس حديثا عن الأرقام فقط، بل إنه
حديث عن الهندسة في المعنى الذي عبر عنه أنتوني جوتليب بأن بوسعها (أي
الهندسة) أن تقدم للروح وسيلة للفرار إذا استخدمت كموضوع للدراسة الموضوعية
المجردة، أي إذا درست أولا لاكتشاف الصحيح من النظريات. إن الهندسة بهذا المعنى
تمثل للفيتاغورسيين مفتاح النظام و الجمال في الكون.
إن فهم الكون نظاما و
جمالا، يعد الهدف الأسمى في المنهج الفيتاغورسي، و كي يتحقق هذا الهدف، يجب على
الفيتاغورسي أن يكون مخلصا، أي أن يدرس
الأرقام و الهندسة و علم الفلك و
الموسيقى لأن كلا من تلك العلوم توضح جانبا من مبادئ النظام في الكون.
![]() |
Pythagoreans celebrate sunrise, 1869 painting by Fyodor Bronnikov. |
لكن هذا الإخلاص ذهب في
اتجاهات متعددة، جعل من
الفيتاغورسية تصنع من نفسها منهجا دينيا أو لنقل روحانيا.
إن المنهج الفيتاغورسي بصفة
عامة يعد تطورا جديدا للديانة الأورفية[2]،
حيث لابد من الاتحاد مع الرب ! بالتطهر( الخلاص الروحي) و هذا يتطلب أن يحيا
الإنسان حياة التأمل و التساؤل. مما جعل فيتاغورس نفسه من أكبر المتسائلين الذين
مشوا على الأرض على حد تعبير بعض الفلاسفة من بعده.
و بما أن محور اهتمام
الفيلسوف الفيتاغوري هو نظام الكون، فإنه بالأرقام يتقرب من حقيقة هذا الكون
باعتباره أجراما سماوية تدور في مسارات منظمة متناغمة في السماء. لكن ما الأرقام
في المنهج الفيتاغوري؟
يجيب أنتوني:"
الأرقام من المتطلبات الأساسية لنظام الطبيعة التي تغلب عليها الفوضى، إن الأشياء
المادية تتكون من الأرقام بطريقة معينة أو بالأحرى بطريقة خاصة تنبع من أسلوبهم(أي
الفيتاغوريين) في تناول الهندسة."[3]
يمكن أن نشرح هذا بمثال
النقط، فالنقط حسب الفيتاغوريين، يمكن لها أن تشكل خطوطا و هذه الخطوط بدورها يمكن ان تشكل أشكالا
هندسية، بهذا المعنى: إبدأ بنقطٍ و ستنتهي بشكل هندسي أبدعتهُ.
لكن هذه الأرقام ليست هي
أصل كل شيء، إنها بذاتها تكونت من شيء آخر، ذهب المنهج الفيتاغوري في تحديده مذهبَ
أناكسيمندر، أي المطلق اللامحدود.
إن دراسة أصل الكون بالنسبة
للفيتاغورسية لا تخرج من إطار مفهومين جوهريين:
¬ المحدود.
¬ اللامحدود.
فكل الأشياء الموجودة منذ
القدم تتكون من شيء واحد و من أشياء متعددة، و إن في طبيعتها مزيجا بين المحدود و
اللامحدود.
لقد رأى الفيتاغورسيون في
الأرقام سر التناغم في الكون، و ارتبط هذا السر بالموسيقى، فالكون موسيقى سماوية
تقوم على ثلاثة أبعاد، تشكل جوهر الفلسفة الفيتاغورسية:
¬ نظام الطبيعة:
الحركات المنتظمة للأجرام السماوية.
¬ جمال الطبيعة:
تناغم و تنساق هذه الحركات.
¬ انتشار
الأرقام: النسب التي توضح التناغم في حركات/ مسارات الأجرام السماوية.
مع المذهب الفيتاغوري أصبحت
الفلسفة مرتبطة بالدين، حيث أنتجت تعاليم و شعائر دينية توارثها تلاميذ فيتاغورس،
لكن تبقى مرحلة مهمة في التفكير الفلسفي آنذاك، لأنها حاولت تحرير الروح بالعقل،
حاولت الاتحاد مع الكون و خالق الكون بالهندسة و الرياضيات.
[2] الديانة الأورفية: Orphism ، دين كان
يعتنق و يمارس في اليونان القديمة، ارتبطت هذه الديانة بأسطورة أورفيوس.